الصرع نوبات مفاجئة ومعتقدات غريبة.
ما من شك في ان المتامل لتاريخ مرض الصرع سوف يصاب بنوع من الدهشة حين يطلع على ذلك العدد الكبير من المعتقدات الغريبة التي بقيت مرتبطة
بهذا المرض طوال قرون وقرون.
يجزم المؤرخون ان القناعات المخطئة التي كانت متداولة بشان مرض الصرع – epilepsie- كانت تؤدي الى التنكيل بضحايا الصرع والى ابعادهم
والتخلص منهم بشتى الوسائل اتقاء للارواح الشريرة التي تسكنهم حسب ما كان شائعا خلال تلك الازمنة . ومن المؤكد ان الاختلاجات والحركات العنيفة
اللاارادة التي تنتاب المريض بالصرع بكيفية مباغتة قد غذت تلك المعتقدات وساهمت في تجدرها في الاذهان . وذلك على الرغم من ان عددا كبيرا من
الاطباء قد حاولوا على مر العصور ان يدحضوا هذه النظرة اللاعلمية للمريض وان يقدموا تفسيرا منطقيا لاعراضه . لكن هؤلاء الاطباء الذين كانوا سابقين
لعصرهم بحق لم يجدوا الاذان الصاغية يومئذ للفرضيات العلمية التي قدموها عن هذا الداء . ونذكر على سبيل المثال ان ابن سينا قد تناول موضوع الصرع
في كتاب القانون وعرفه بانه علة تمنع الاعضاء النفسية عن افعال الحس والحركة منعا غير تام . كما انه تطرق الى اسبابه واعراضه بما يلزم من التفصيل .
وبطبيعة الحال فان التعليلات والفرضيات التي اعتمدها ابن سينا وغيره من اطباء العصور السالفة بخصوص اسباب هذا المرض تبدو اليوم متجاوزة . بل ان
الطب الحديث نفسه لم يستطع بعد ان ينفذ الى كافة اسرار الصرع رغم التطور الكبير لطرق الفحص والاستكشاف.
الصرع ومظاهره السريرية المتعددة .
لقد لاحظ دارسو هذا المرض منذ القديم ان تعدد مظاهره السريرية يمثل احد ى اهم خاصياته. وهذا التعدد بالذات هو الذي يجعل تعريف المرض امرا غير يسير
على الصعيد السريري او العيادي . ولهذا السبب سعى الاخصائيون الى تعريف المرض بناء على الاضطراب الفيزيولوجي الذي يشكل بحق خلفية موحدة لكافة
اشكال ومظاهر هذا المرض . ويتعلق الامر بنشاط مفرط ومباغت لمجموعة من الخلايا الدماغية . اما اختلاف اعراض الصرع فانه يتوقف على المنطقة الدماغية
التي تشهد هذا النشاط المرضي المفرط . وسوف نتحدث في ما يلي عن اهم اشكال هذا المرض قبل الانتقال الى اسبابه المختلفة .
– النوبة الكبرى للصرع :
تطلق تسمية النوبة الكبرى – Grand Mal – على ذلك الشكل السريري الشائع للمرض الذي يتميز بحدوث اختلاجات تشمل الجسد كله . وهذه النوبة الكبرى هي
التي تتبادر الى اذهان الناس عادة اثناء الحديث عن الصرع .في حين تبقى الاشكال السريرية الاخرى غير معروفة بما فيه الكفاية . وتتكون نوبة الصرع الكبرى
من عدة مراحل متتالية :
– مرحلة فقدان الوعي : وهي سريعة الحدوث كما انها مباغتة تماما في اغلب الحالات . واحيانا يطلق المريض صيحة حادة قبل ان يسقط ارضا وهو فاقد لوعيه.
– مرحلة التوتر العضلي : تبدا هذه المرحلة مباشرة بعد فقدان الوعي . وخلالها تتوتر عضلات المريض وتنقبض انقباضا شديدا ، وهو ما يبدو بوضوح على
مستوى الفكين مثلا . ويتصلب الجذع وكذلك الاطراف وتتوقف الحركات التنفسية . كما يصاب هذا المريض بشحوب بين يعقبه ازرقاق للبشرة بسبب نقص
الاوكسجين . وكثيرا ما يحدث تبول لا ارادي خلال هذه المرحلة التي تستمر في المتوسط ما بين بضع ثوان ودقيقة واحدة الى دقيقتين . وكل من يشاهد مريضا
بالصرع خلال هذه المرحلة بالذات ينتابه الخوف على حياة هذا الاخير بسبب المظهر المقلق الذي تكتسيه سحنته آنئذ .
– مرحلة الاختلاجات : مباشرة بعد المرحلة السابقة يشرع المريض في حركات اختلاجية بالغة الشدة على مستوى الاطراف بالخصوص . والاختلاجات هي
عبار عن حركات لا إرادية متتالية كما هو معروف . وكثيرا ما يعض المريض لسانه اثناء هذه المرحلة الاختلاجية الى ان يدميه . وتتواصل الاختلاجات
بضع دقائق ثم تخف تدريجيا الى ان تزول مؤذنة ببدء المرحلة التالية .
– مرحلة (الشخير ) : ويعود سبب تسميتها هكذا الى كون التنفس يصير صاخبا خلالها . وفي هذه المرحلة تكون الاختلاجات قد توقفت تماما ويكون المريض
في غيبوبة عميقة وقد ارتخت كل عضلات جسمه ارتخاء شديدا . وتختلف مدة المرحلة ( الشخيرية ) باختلاف الحالات . لكنها نادرا ما تتجاوز عشر دقائق.
– مرحلة الاستيقاظ : واثناءها يستعيد المريض وعيه شيئا فشيئا . وقد لا يتطلب ذلك اكثر من دقائق معدودة بالنسبة الى بعض المرضى . في حين يحتاج
اخرون الى ساعة او ازيد قبل ان يستعيدوا وعيهم تماما . ولا يحتفظ المريض باي ذكرى عن النوبة بعد حدوثها . فهو يشعر فقط بعياء شديد وبان الاشياء
غائمة من حوله دون ان يعرف لذلك سببا واضحا .
ويتمكن الطبيب في معظم الاحيان بناء على المعطيات السريرية التي ذكرناها من الاشتباه في مرض الصرع. ونظرا لان المريض لا يستطيع ان يتذكر ما
حدث له فان دور افراد العائلة يعد حاسما في هذا المجال . اذ ان عليهم ان يقدموا للطبيب المعالج وصفا دقيقا للنوبة التي تعتري المريض .
وبشكل عام فان ظاهرة التبول اللاإرادي خلال النوبة وظاهرة عض اللسان اضافة الى عدم تذكر اي شيئ بعد الاستيقاظ كل هذاه الخاصيات تعتبر وقفا على
نوبة الصرع دون غيرها من الاختلاجات .
ثم ان سحنة المريض نفسها قد تكون موحية الى حد بعيد . فهذا المريض الذي يسقط ارضا بكيفية مباغتة وبعنف عند بداية كل نوبة يحمل ندوبا مختلفة على
مستوى الوجه بشكل خاص . وقد يفقد جزءا من اسنانه من جراء السقطات المتكررة . بل ان عددا لا يستهان به من المرضى بالصرع يتعرضون لحروق متفاوتة
الخطورة حين يسقطون فجاة فوق انية ساخنة او ما شابه ذلك . غير ان هناك اشخاصا مصابين بالصرع يشعرون ببعض الاعراض الخاصة التي تنبئبقرب
حدوث النوبة لديهم . فهم يصابون حينئذ بدوار او باضطراب في المزاج او بظما غير مالوف الى غير ذلك من العلامات التي يدركون بحكم العادة انها نذير بنوبة
وشيكة . ولذا فهم قد يتخذون مختلف الاحتياطات وهذه حالات نادرة في حقيقة الامر مادامت نوبة الصرع تحتفظ بطابعها المباغت في اغلب الاحيان .
وهناك حالة خاصة يجدر ذكرها ايضا في هذا السياق ونقصد نوبة الصرع التي تحدث خلال النوم . ذلك ان عددا كبيرا من المرضى لا يصابون بالنوبة الا خلال
النوم . وقد تمر فترة طويلة من غير ان ينتبه المصاب بهذا النوع من الصرع الى حقيقة مرضه على الرغم منوجود بعض العلامات التي تدل على ان شيئا ما
غير طبيعي قد حدث اثناء النوم مثل حالة الفوضى التي يكون عليها السرير عند الاستيقاظ والجرح الذي قد يصيب اللسان واحيانا التبول اللاإرادي ثم العياء
غير المالوف الى غير ذلك من الاعراض والعلامات .
الصرع الصغير :
خلافا للنوبة الكبرى يتميز الصرع الصغير – Petit Mal – بخلوه من اي اختلاج . اما خاصيته الرئيسية تتمثل في توقف النشاط الواعي توقفا مطلقا خلال
النوبة . وتدوم نوبة الصرع الصغير ما بين عشر ثوان وخمس عشرة ثانية . ويبدا هذا المرض في سن الطفولة حوالي الخامسة او السادسة من العمر .
وانطلاقا من مرحلة البلوغ تصير النوبات نادرة ومتباعدة كي يزول تماما في معظم الاحيان خلال العقد الثالث من العمر . ولا تكوم موبة الصرع الصغير
مسبوقة باي عرض من الاعراض . كما انها لا تنعكس في شيئ على سلوك الطفل ولا على حالته الصحية العامة .
واثناء النوبة يتوقف الطفل بكيفية مفاجئة عما كان منهمكا فيه وتصير نظراته ثابتة . كما انه يشحب قليلا ويبدو جامدا شبه متحجر ثم تطرف عيناه مرتين او
ثلاثا ويعود ليستانف نشاطه الطبيعي واثناء هذه النوبة التي يسميها الاطباء بالغياب – Absence – والتي لا تدوم سوى وقت قصير جدا كما اسلفنا لا يحدث
اي اضطراب عضلي ولا يحتفظ المريض بعد النوبة باية ذكرى عنها .
ويتضح من الخاصيات التي ذكرناها ان تشخيص هذا الغياب ليس سهلا فكثيرا ما يؤوله الاباء والمدرسون على انه مجرد شرود بل ان بعض الاطفال قد
يتعرضون للتعريف من جراء هذا الشرود ما لم يشخص مرض الصرع الصغير بدقة بناء على المعطيات التي يوفرها التخطيط الكهربائى للدماغ بالاساس.
– الصرع الجزئي :
ان اهم ما يميز الصرع الجزئي هو وجود خاصيات سريرية وكهربائية مرتبطة بالتخطيط الدماغي تمكن من تحديد المنطقة الدماغية التي تشهد النشاط
المرضي المفرط للخلايا العصبية اثناء النوبة . ويطلق الاطباء تسمية بؤرة الصرع على المنطقة المذكورة . وهي ظاهرة سوف تتضح اهميتها اثناء
الحديث عن اسباب الصرع . وهناك اشكال سريرية متعددة للصرع الجزئي .
– اهمية التخطيط الكهربائي في تشخيص الصرع :
لقد كان لظهور التخطيط الكهربائي للدماغ اهمية كبرى في ميدان تشخيص الصرع . وعلاوة على المعطيات التشخيصية العامة يمكن هذا التخطيط من الحصول
على معلومات بالغة الاهمية . في ما يتعلق بالتشخيص الموضعي اي بالمنطقة المحددة التي ينتابها الاضطراب . غير ان تاويل هذه المعطيات يتطلب الكثير من
التجربة والمراس . ثم ان المخططات الكهربائية التي يتم الحصول عليها تحتلف كثيرا باختلاف الحلات . الا اذا نحن استثنينا الصرع الصغير الذي يؤدي الى ظهور
الاختلالات نفسها لدى غالبية المرضى .
ومن بين المتاعب التشخيصية التي يصادفها الاطباء كذلك في هذا المجال هناك الصعوبة المتمثلة في كون التخطيط الكهربائي قد يبدو عاديا لدى اشخاص مصابين
بصرغ حقيقي . وذلك لانه ينجز في وقت لا يعاني فيه المريض من النوبة . بينما نعرف ان الخلايا الدماغية تعمل بكيفية طبيعية خلال الفترة الفاصلة بين نوبتين.
ومجمل القول ان هذه التقنية التي نتحدث عنها تعتبر ذات اهمية قصوى في تشخيص الصرع . بيد ان هذا لا يعني انها تدلي دائما بمعطيات حاسمة او نهائية .
فالاخصائيون جميعهم متفقون على ضرورة مجابهة المعطيات التخطيطية بالمعطيات السريرية قبل الجزم بالتشخيص .
وبالاضافة الى التخطيط الكهربائي للدماغ يلجا الطبيب المعالج في بعض الحالات الى فحوص اخرى متطورة كالفحص بالسكانير او غيره بحثا عن علة قد تكون
هي المسببة لمرض الصرع .وهو ما يسميه الاطباء بالتشخيص السببي الذي لسنا في حاجة للتاكيد على اهميته الكبرى في هذا النطاق .
الانعكاسات النفسية للصرع :
لقد عرف موضوع الانعكاسات النفسية للصرع نقاشات وخلافات لم تنته بعد بين الاخصائيين . ولا نقصد هنا تلك الاراض النفسية التي تتزامن مع بعض النوبات
وتزول بزوالها . بل نتحدث عن الاضطرابات النفسية المزمنة التي يعتقد الكثيرون انها ترتبط في العمق بمرض الصرع . ويذهب عدد من الاخصائيين الى حد القول
بان شخصية المريض بالصرع تتميز بخاصيات متعددة يسهل الانتباه اليها . فمنها المزاج المتقلب وسرعة الغضب ولزوجة الفكر والميل الى تكرار الاشياء مع قدرة
غريبة على الالحاح ثم التعالي والانانية . وفي الوقت نفسه يلاحظ لدى هؤلاء المرضى برود متزايد على الصعيد العاطفي والوجداني .
هذه اذن الملامح العامة لشخصية المريض بالصرع حسب اولئك الاخصائيين . غير اننا نجد بالمقابل من يتصدى بشدة لهذا المفهوم – مفهوم الشخصية الصرعية –
مادام مبنيا على تعميم لا يقبله المنطق السلم . ففي اعتقاد معارضي هذا المفهوم لا تشاهد ملامح الشخصية المشار اليها الا لدى نسبة ضئيلة من المرضى . ويتعلق
الامر تحديدا ياولئك الذين يقضون فترات طويلة بالمستشفيات مظرا لاشتداد وطاة الصرع عليهم . وبطبيعة الحال فان المعطيات الناجمة عن دراسة حالاتهم لا ينبغي
ان تعمم باي حال من الاحوال على مجموع المصابين بهذا المرض . ثم ان دراسة الخاصيات النفسية للمرضى بالصرع تتطلب ان ناخذ بعين الاعتبار عدة عوامل
متداخلة مثل نوعية الاعتلال الدماغي الذي تسبب في الصرع والتاثير المزمن للادوية وردود فعل الوسط العائلي والاجتماعي الى غير ذلك من العوامل المختلفة .
وبالموازاة مع مفهوم الشخصية الصرعية نجد اخصائيين اخرين يثيرون مشكل انحطاط القدرات الذهنية لدى المصابين بهذا المرض اذ يعتقد الكثيرون ان الصرع
يؤدي على نحو تدريجي الى هذا الانحطاط وهنا ايضا يتصدى اكثر من واحد لهذا الاعتقاد . ويكفي ان نشير الى ان لينوكس وهو من كبار الاخصائيين في هذا المجال
يرى ان مسالة انحطاط القدرات الذهنية عند المرضى بالصرع لا تنبني على اي اساس علمي بل انه يؤكد على ان 90 % من هؤلاء المرضى يبقون متمتعين
بقدرات ذهنية طبيعية تماما وذلك طوال حياتهم هذا دون ان ننسى ان عددا لا يستهان به من المشاهير الذين حققوا انجازات باهرة في ميدان العلم والادب والفن
قد كانوا مصابين بهذا المرض . اما بالنسبة الى الحالات الذهلنية التي تشاهد لدى المرضى بالصرع فهي استثنائية حقا فضلا على ان علاقتها بهذا المرض
ليست واضحة كل الوضوح .