الذاكرة : صلة وصل بين الحاضر والماضي .


الذاكرة : صلة وصل بين الحاضر والماضي .

 لاجدال في ان الهوية الحقيقية للانسان ترتبط ارتباطا وثيقا بالذاكرة . فبفضل هذه الاخيرة يدرك كل واحد من الناس انه كائن متفرد بناء على ذكريات ماضيه وعلى معطيات حاضره .

فماهي الذاكرة ؟

تتمثل الذاكرة في نشاط متميز للجهاز العصبي يمكن منتخزين المعلومات والخبرات التي تمت حيازتها مسبقا ومن استحضارها او استحضار جزء منها على الاقل كلما دعت الحاجة اليها . وينبغي التاكيد على اهمية كلمتي تخزين واستحضار في التعريف اعلاه . فكل منهما تشير الى جانب اساسي في وظيفة الذاكرة . فالقدرة على تخزين المعلومات والخبرات ينبغي ان تواكبها قدرة مماثلة على استحضار هذه المعلومات والخبرات كلما الامر ذلك . وبفضل هذه الذاكرة يعيش الانسان حاضره ويخطط لمستقبله انطلاقا من تجارب ماضيه . فهي اذن بمثابة المحرك النفسي الذي يدفع المرء باستمرار الى الامام . وترتبط الذاكرة ارتباطا وثيقا ببعض الوظائف العليا للدماغ كالتيقظ والانتباه وغيرهما . فكلما كان الانسان يقظا متنبها لما يحدث من حوله في لحظة معينة كلما سهل على ذاكرته تسجيل وتوثيق احداث اللحظة المذكورة . وعلى الصعيد النفسي يقسم الاطباء الذاكرة الى عدة مراتب او مستويات كما يلي : 

– الذاكرة الفورية :

ويتجلى نشاطها على سبيل  المثال في قدرة المرء على تذكر مجموعة من الارقام او سلسلة من المقاطع اللفظية بعد مرور بضع دقائق على استماعه اليها . وتختلف قوة الذاكرة الفورية هذه  باختلاف الناس . فمنهم من يستطيع استعادة سلسلة طويلة من الارقام لا يربط بينها رابط بعد سماعها مرة واحدة ومنهم من يعجز مطلقا عن ذلك وتلعب العوامل الشخصية دورا مهما في هذا المجال . 

– الذاكرة القريبة :

ويسميها البعض ذاكرة  الاثبات او الادماج وهي تتولى عملية الاحتفاظ بالوقائع والاحداث القريبة التي لم يمض عليها زمن طويل . اي انها تسجل ما حدث بالامس القريب : ما قام به الشخص مثلا قبل يومين او ثلاثة وبرفقة من تناول العشاء البارحة ومم تكونت وجبة العشاء المذكور… ومن هنا تبدو لنا اهميتها القصوى في الحياة الاجتماعية للانسان خاصة اذا ما علمنا ان هذه الذاكرة القريبة تلعب كذلك دورا رئيسيا في قدرة المرء على تحديد الزمان والمكان . وبطبيعة الحال فان اضطراب هذه الذاكرة يؤدي الى نسيان تصاعدي ينعكس على الحياة اليومية بشكل كبير.

– الذاكرة البعيدة :

تقوم بتخزين وتوثيق ذكريات الطفولة والماضي البعيد . كما انها تتولى الاحتفاظ بالمعلومات الدراسية والثقافية وما الى ذلك . ويؤدي اضطرابها الى نوع من النسيان  ” الارتجاعي ” الذي يجعل الانسان عاجزا عن تذكر احداث ماضيه .

وقد يبدو هذا التقسيم للذاكرة الى فورية وقريبة وبعيدة امرا اعتباطيا الى حد ما ومع ذلك فان اي طبيب نفساني يصادف في ممارسته العملية اليومية حالات مرضية تتميز باضطراب هذا المستوى من الذاكرة دون ذلك . وهو امر كاف لتبرير التصنيف المشار اليه .

اضطرابات الذاكرة :

حين نتحدث عن اضطرابات الذاكرة فان مشكل النسيان هو الذي يتبادر الى الاذهان . وذلك شيئ طبيعي  باعتبار ان النسيان يمثل بالفعل اكثر الاضطرابات حدوثا في هذا المجال غير ان اضطرابات الذاكرة لا يمكن ان تختزل في النسيان بل ان الاختلالات التي قد تعتريها قد تكون اشد وطاة من النسيان .

– هلوسة الذاكرة :

ويسميها الاطباء كذلك هلوسة الماضي وتشاهد مثل هذه الحالة في بعض اشكال الصرع وايضا في حالات الاختلال الذهني والافراط في تناول بعض المخدرات . وقد تحدث هلوسة الماضي هذه في عدد من حالات الهستيريا كذلك . ويتعلق الامر بانبثاق مكثف لمجموعة من الذكريات يعيشها الشخص وكانها جزء لا يتجزا من حاضره الامر الذي يؤدي الى خلط بين الماضي والحاضر .

– انعتاق الذاكرة : 

ويتجلى هذا الانعتاق في شكله الحاد على هيئة استعادة مكثفة لمشاهد واحداث من الماضي تفرض نفسها على المريض فرضا وتعبر فضاء ذهنه بوضوح مدهش . ومن اكثر هذه الحالات غرابة تلك التي تحدث لاشخاص تعرضوا مثلا لحوادث سير كادت تودي بحياتهم . اذ يصف عدد من هؤلاء  كيف انبثق الماضي في اذهانهم فجاة خلال لحظات قصيرة جدا كانوا مشرفين  فيها على الهلاك . ويتم ذلك على هيئة مشاهد بانورامية من الماضي تتعلق في الغالب باكثر الاحداث اهمية فيما سلف من حياة المرء . وخلال انعتاق الذاكرة هذا لا يستعيد الانسان مشاهد من ماضيه فحسب بل انه يستشعر كل زخمها الوجداني وكل حمولتها العاطفية ويحدث ذلك بسرعة خاطفة . وقد يشاهد انعتاق الذاكرة في بعض اشكال الصرع كذلك . ويذهب البعض الى ان ظواهر مماثلة تحدث لدى بعض الاشخاص في لحظات الاحتضار .

– اوهام الذاكرة :

في هذه الحالة تمتزج الاحداث الخيالية بالذكريات الحقيقية . وقد يصل الامر حدا تختفي معه الذكريات الحقيقية لتحل محلها الاحداث الخيالية . وبطبيعة الحال فان ضحية هذا الاضطراب حين يحكي ما يعتقد انه ذكرياته لا يشك ابدا في ان ما يحكيه هو بالفعل جزء من ماضيه . وتكثر هذه الذكريات الخيالية لدى بعض مدمني الكحول وفي العديد من حالات الخرف ايضا.

وثمة ظاهرة  يمكن ادراجها ضمن  هذا السياق وان تكن غير مرضية اطلاقا ويتعلق الامر بذلك الاحساس الذي يعتري الانسان في بعض الاحيان بان اللحظة التي يعيشها قد سبق له ان عاشها من قبل بكل تفاصيلها تقريبا . فهذه ظاهرة تحدث لدى غالبية الناس وان كانت اكثر حدوثا عند بعض الاشخاص دون سواهم . ولم يستطع الاخصائيون ايجاد تفسير مقنع لهذه الظاهرة التي تثير العديد من التساؤلات في الاذهان . خاصة وانها تكون مقرونة بنوع من الحيرة الناجمة عن اختلاط الماضي بالحاضر .

الفرح والحزن.


الفرح والحزن .

 حين يتحدث الناس عن الفرح او عن الحزن فان العوامل المرتبطة بالوسط الخارجي هي التي تقفز الى الاذهان . غير ان الدراسات الحديثة قد اثبتت ان العوامل البيولوجية الداخلية تلعب هي الاخرى دورا لا يستهان به في هذا الميدان .

ما معنى المزاج ؟

يحدث لنا جميعا ان نحس بالفرح حينا وبالحزن حينا اخر … كما يحدث  لنا جميعا كذلك ان نتساءل عن السر في كون بعض الناس اكثر ميلا الى الفرح من غيرهم … فهم مستبشرون دائما متفائلون باستمرار ياخذون الحياة من جانبها الايجابي كما يقال خلافا لاولئك الذين يغلب عليهم الحزن والتشاؤم فلا يكاد احد يراهم سوى متجهمين مقطبين . والحق ان غلبة هذه الحالة او تلك مرتبطة اساسا بالمزاج ونحن كثيرا ما نستعمل لفظة المزاج هذه في احاديثنا اليومية فنقول مثلا ان فلانا شخص مزاجي وان فلانة متقلبة المزاج . ومع ذلك فنادرا ما نسال انفسنا عن المعنى الدقيق لهذه الكلمة . فما المقصود بالمزاج ؟

ان الاطباء النفسانيين يعرفونه بكونه تلك الحالة الوجدانية الجوهرية التي تضفي على نفسية الانسان في كل لحظة من اللحظات صبغة من الرضى او الانزعاج متارجحة بذلك بين قطبين هما الفرح والحزن . هذا فيما يتعلق بالتعريف الذي يدلي به الاخصائيون . بيد انه بامكاننا ان نقدم تعريفا  ابسط قائلين بان المزاج هو  بمثابة الاضاءة الداخلية للنفس . وقد تتراوح هذه الاضاءة بين النور الخافت الضئيل ( الحزن ) والضوء المشع المتوهج (الفرح ) . ولا يثبت المزاج على حال لدى الانسان فهو يتغير باستمرار ولكن طبيعة تغيراته تختلف باختلاف الاشخاص . وقد سبقت الاشارة الى ان هناك افرادا اكثر قابلية للانشراح واخرين اكثر استعدادا للكابة والحزن . ومن جهة اخرى فان  حالة المزاج لدى كل شخص مرتبطة باشباع او عدم اشباع حاجاته ودوافعه الغريزية من جوع وعطش ونوم وجنس … مثلما هي مرتبطة بقدرته او عدم قدرته على الاستجابة لمختلف المتطلبات الاجتماعية والترفيهية .

انواع المزاج : المزاج الدوري والمزاج الانطوائي : لقد كان الطبيب النفساني الالماني “كريتشمر ” من بين السباقين الى التمييز بين هذين الصنفين من المزاج .

– المزاج الدوري : ويتميز صاحبه على صعيد البنية الجسدية بكونه قصير القامة مع ميل واضح للبدانة . وتتجلى اهم خصائص المزاج الدوري في كونه ” ساخنا ” سريع التفاعل مع معطيات ومتغيرات العالم الخارجي . وقد سماه ” كريتشمر ” بالمزاج الدوري لان اصحابه يمرون بفترات من الانشراح تعقبها فترات من الكابة على نحو يكاد يكون منتطما . ويتصف اصحاب هذا النوع من المزاج كذلك بكونهم اشخاصا واقعيين يهتمون بالجانب العملي للاشياء .

– المزاج الانطوائي : ويتصف صاحبه على صعيد البنية الجسدية بطول القامة وبالنحول . ويختلف المزاج الانطوائي عن سابقه بالبرود وبنوع من الحياد الظاهري تجاه متغيرات المحيط الخارجي مع انطواء على النفس وفتور وجداني عام . والشخص الانطوائي دائم الانكباب على عالمه الداخلي دائم النظر في اعماق نفسه . وبالطبع فان هذه الخصائص تؤدي الى صعوبة كبرى في الاندماج الاجتماعي . وحتى حين يبدو الشخص الانطوائي مندمجا الى حد ما فانه لا يتوصل الى ذلك سوى عبر تمسكه بالشكليات التي تخفي خلفها توقا شديدا الى العزلة ونفورا عميقا من صحبة الغير .

ولابد من الاشارة  بهذا الصدد الى ان كريتشمر قد بنى تصنيفه في بداية الامر على الخصائص المورفلوجية اي المرتبطة بالبنية الخارجية للجسم فحسب . وقد ميز حينئذ بين ثلاثة انواع من الشخصيات القصير البدين والطويل النحيل وصاحب البنية الرياضية . ثم سرعان ما انتبه الى ان هناك خاصيات مزاجية معينة تقابل النوعين الاولين الامر الذي ادى به الى التمييز بين المزاج الدوري والمزاج الانطوائي .

كابة وانشراح : 

يمكن ان نستخلص مما سبق ما للمزاج من اهمية كبرى وكيف تضفي تغيراته صبغة خاصة على الحياة اليومية للانسان . وقد راينا كيف يتراوح المزاج الدوري بكيفية  شبه منتظمة بين الانشراح والكابة في حين يتميز المزاج الانطوائي ببرود لا يبدو من خلاله انشراح ولا كابة . ولا يعني هذا ان كل واحد من الناس ينتمي بالضرورة الى هذا النوع او ذاك . اذ يمثل هذان النوعان في حقيقة الامر حالتين قصويين . من جهة اخرى فان اهمية تصنيف كريتشمر تتجلى في توكيده على مسالة اساسية وهي ان تغيرات المزاج علاوة على ارتباطها بتغيرات الوسط الخارجي تبقى رهينة ايضا بمختلف العوامل اللصيقة بشخصية الانسان .

وثمة جانب لابد من التاكيد علي اهميته كذلك وهو ان تغيرات المزاج في الحالات العادية تبقى دائما في حدود معينة لا تتجاوزها باي حال من الاحوال . اما في الحالات المرضية فان الامر يختلف جذريا عما ذكرناه . ذلك ان الحزن قد  يصبح مرضيا مثلما قد يصبح الفرح مرضيا هو الاخر . والحزن المرضي هو ما يسميه الاطباء “الاكتئاب النفسي ” Dépression  وقد تزيد حدته او تنقص حسب الحالات اما الفرح المرضي فهو ما يسميه الاطباء ب ” الهوس ” Manie. ومن مميزات انه يؤدي الى احتدام حقيقي للمزاج . مما يجعل المريض يعيش حالة من الاندفاع المرضي التي تجعله غير عابئ بما حوله .

ahmedii2

الشيطان.


الشيطان .
اما الشيطان فهو افصح مثال على اسقاط المعاناة الذاتية . والتنصل من المسؤولية المصيرية خصوصا بما يكتسبه هذا الرمز من تعزيز ديني يجعله بمنآى عن الشك . ولهذا فهو كرمز يصلح تماما لاسقاط المساوئ الذاتية واوجه القصور الشخصية وتبرر انعدام تحمل المسؤولية . والواقع ان الدارس النفسي لا يستطيع ان يتمالك نفسه من التشابه الكبير بين خصائص الشيطان كرمز للشر وبين خصائص اللاوعي الانساني وما يقبع فيه من رغبات ونزوات ذات طبيعة عدوانية او جنسية وهي لا اخلاقية في الحالتين .

ان الشيطان هو رمز الشر والغواية والتمرد على الاوامر الالهية . وهو لذلك مغضوب عليه محكوم بالطرد من الجنة . ولكنه لقاء هذا الطرد سيظل ابديا وسيشكل مصدر اغراء وغواية دائمين للانسان . وهو الى ذلك مصدر اغراء بالتمرد والثورة على القيود الدينية والخلقية . لكل من هذه الخصائص ما يقابلها في اللاوعي الانساني . المكبوت ( النزوات المفروضة لتعارضها مع المعايير ) هو باستمرار مصدر الشر والتهديد بالغواية . تحرك المكبوت يثير الانا الاعلى ( الضمير الخلقي ) الذي ينزل اشد العقاب بالانسان اذا استسلم للغواية (لاغراء اشباع النزوات المكبوتة ) . ولذلك يطرد المكبوت من الوعي من الرغبة غير المقبولة الى حيز الكبت ولكنه لا يقضي عليها بل تظل ابدا متحركة دينامية تتربص ساعة غفلة من المرء ورقباته الخلقية كي تبرز تماما كالشيطان الذي ينسل الى الانسان في ساعة غفلة فيجعله يستسلم لما لا يرضاه من انجراف في ممارسات السوء . وكما ان ابليس لا ينام ومكره وحيلته لا حد لهما وتلبيسه ( الصور التي يظهر بها ذو اشكال لا حصر لها ) وطريقة استخفائه وتنكره تسمح له ان يفلت دوما من التنبه له وبالتالي فلا يامن شره الا الصفوة من ذوي الحظوة بالرعاية الالهية  كذلك هو اللاوعي تماما . الدوافع المكبوتة تاخذ الف وجه وشكل انها تكمن للمرء في الامور التي هي آخر ما يخطر بباله ان يتوقعها وهي تظهر في الحلم او اليقظة او الاضطراب السلوكي او العرض المرضي او الصراع العلائقي محققة مآربها . والمكبوت هو من حيث تعريفه عدو الانسان من الناحية الخلقية الواعية . ووطأته شديدة على النفس تتطلب كفاحا دائما ومضنيا بعض الاحيان . ولذلك فان اسقاطها على الشيطان من انجع الحيل للتخفيف من وطأتها وضغطها من ناحية والتخلص من وزرها ( وما يثيره من شعور بالاثم ( من ناحية ثانية .

وليس الشيطان مجرد رمز للغواية اللاواعية بل يلعب نفس الدور بالنسبة للوضعية الاجتماعية للانسان . كل اغراء بالتمرد على المعايير القمعية يلصق بغواية الشيطان وتغريره بالانسان . كل تقصير في النهوض بواجبات المصير الذاتي يلصق بتززين شيطاني . كل عدوان على الاخرين او النيل منهم يحمل وزره للشيطان . وبهذه الصورة تتحول الحياة بما فيها من احداث الى سلسلة ماساوية يقوم الشيطان باخراجها ويكون الانسان مجرد ممثل فيها دون ان يعرف تحديدا طبيعة الدور الذي يقوم به . وهكذا فان ( الشيطان لم يقتصر دوره في الواقع على الغواية في المسائل الدينية بل انه يتغلغل في اعماق نسيج الذات العربية بحيث يعزى اليه كل ما لا يرضى عنه الانسان او المجتمع وبهذا اصبح الشيطان ستارا تختفي وراءه كل العلل والاسباب  ومشجبا تعلق عليه التبريرات والمعاذير واصبح مستودعا للاخطاء والهفوات كبيرها وصغيرها سواء على مستوى الفرد او على مستوى الامة . وهذا ما ساعد على اضعاف آلية التحليل في العقلية العربية وتنمية التعليل الغيبي الساذج . وسهولة مغالطة الواقع بالتغاضي عن حقائقه المادية وارجاع كل شيئ الى الشيطان ) ابراهيم بدران وسلوى الخماش . يلاحظ هذان المؤلفان بصدد الشيطان كيف ان السلطة في البلاد النامية تشجع اجمالا التفسيرات الخرافية لظواهر الحياة وتساعد على انتشار الافكار والمعتقدات حول الشيطان لتمنع بذلك كل تحليل نقدي للامور مما يساعدها على تجنب الانتقاد والمآخذ واستمرار نفوذها واستغلالها . كم هي كبيرة الخدمات التي يقدمها رمز الشيطان لكل من السلطة  المستغلة والانسان المقهور في العالم النامي .

الجن والعفاريت والشيطان .


كلها كائنات خفية لعبت دورا بارزا في السيطرة على خيال الجماهير المقهورة وتعليلها للاحداث التي تفلت من سيطرتها والتي يستعصي عليها تفسيرها . كما انها قد استخدمت ومازالت بكثرة لتبرير ما يود الانسان التستر عليه من فضيحة او عيب او تقصيربزعم الوقوع تحت تاثير الجن مما يساعده على الحفاظ على سمعته . هذه الكائنات الخفية تسقط عليها صور انسانية وتقوم مجموعة من الخرافات حول علاقاتها ببني الانسان . فهي تسكن الارض السفلى نهارا لتخرج منها ليلا فتعيث فسادا وغواية . وقد تصاحب بعض الناس او تقوم بينه وبينها علاقات عاطفية وعلاقات حب تصل احيانا حد الزواج او الارغام عليه . زواج انسي من جنية اغرمت به وارغمته على اللحاق بها الى الارض السفلى او هي تاتي لتزوره ليلا منافسة بذلك زوجته وموقعة بينه وبينها الخلاف الذي يصل حد الطلاق . وكذلك زواج انسية من احد رجال الجان . ويتم الامر في الحالتين على شكل غواية وارغام . ويثير دوما مصاعب ومصائب حياتية لمن ابتلي به من بني الانسان ولذلك فهي تثير الخوف دوما كما تثير الشك والحذر . كما قد تقوم بينها وبين بعض بني الانسان علاقات تحالف ضد اعداء معينين . وهي الى ذلك تقيم في مناطق لا يجوز الاقتراب منها او المساس بها لانها تظهر على صاحب المحاولة ليلا فتثير الذعر في نفسه او تؤذيه اذا حاول الاعتداء علي مقرها . ويشيع الكثير من حالات الهلوسة الهذيانية – البصرية السمعية – حول رؤية الجان واللقاء بهم وسماعهم في افراحهم واحزانهم . وما كل ذلك سوى اسقاط لمكنونات النفس اللاواعية وتجسيد لها على شكل كائنات خفية . انها اسقاط لرغباته الدفينة والتي تعرضت لقمع اجتماعي شديد  ( رغبة في الطلاق مثلا والزواج من قرين يتمشى من الشخص المرغوب فيه جنسيا تسقط على الجنية مصدر الغواية التي لا تقاوم  ) او هي اسقاط لمخاوف تعتمل في لاوعي المرء ويخشى بروزها الى حيز الوعي ايما خشية نظرا لما تتضمنه من تهديد لمكانته او سمعته او توازنه فلا يجد افضل من تجسيدها من خلال كائن خفي تعترف به الجماعة . ومن الخصائص الهامة لهذا التجسيد تبرئة النفس من كل لوم اجتماعي او ذاتي على ما رغبت فيه او خشيته فالمرء في هذه الحالة مجرد ضحية ولا يملك من امره شيئا . تلكم هي خاصية من خصائص اسقاط الازمات والصراعات النفسية في العالم المتخلف الذي يمارس اقصى درجات القهر ويفرض اقصى حالات الجهل على ابنائه . فكل رغبة او خوف يقمعان بشدة لما يتضمنانه من ادانة  فلا يبقى امام المرء سوى التعبير من خلال التجسيد الخرافي .

وابرز مثال على حالة التجسيد الذي ينفي المسؤولية الذاتية كما يحفظ السمعة حالة التلبس او الخبطة التي تفسر من خلالها بعض الاضطرابات التفسية ذات الطابع الهستيري او الصرعي . انها اكثر التفسيرات شيوعا في البيئات المتخلفة . فهي تعلل وتوضح ما تعجز عنه هذه البيئات من تاويل نفساني اجتماعي علمي للاضطرابات النفسية والسلوكية وهي نبرز التحلل السلوكي الذي يبديه المريض . تحلل هو في حقيقته انجاز لنزوات مكبوتة وافلاتها من سيطرة الارادة وتحكمها في السلوك لتحقيق رغبات مورست عليها اشد درجات القمع . وهي اخيرا تغطي مسؤولية الاسرة والجماعة في مرض الفرد وتتستر عليه . فما اسهل القول ان فلانا ممسوس او متلبس كوسيلة للتستر على مسؤولية الجماعة . يحدثنا طه حسين في كتابه ( شجرة البؤس ) بوضوح عن هذه الحالة . الزوجة القبيحة التي ارغم زوجها على الاقتران بها نتيجة لرغبة الوالدين وبامر من شيخ القرية وبشكل اعتباطي لم يراع رغبة الزوج ولا رايه . فكان ان دبت الكراهية في نفسه تجاه زوجته المفرطة القبح بعد ان كبتت سنين طوالا ارضاء للوالدين والشيخ . وكان ان هجرها بصراحة واخذ يسيئ اليها في كبريائها الذاتية في امر لا تستطيع له تغييرا . ولم تلبث هذه الزوجة الضحية ان اصيبت باعراض هستيرية اهتياجية سوداوية نتيجة لما تعرضت له من مهانة وهجر وما صب عليها من حقد دون ان تملك القدرة على الرد او الحق في الدفاع عن نفسها ( المراة الاداة المسيرة ) . وسرعان ما وجد الزوج والاسرة التي تآمرت عليه وعلى زوجته حين فرضت عليهما هذا القران تفسيرا ولا اسهل لهذه النوبة من خلال التلبس بالجن . وصورت انها ضحية احدى النساء اللواتي يقمن صلات مع الجن حين روت هذه الاخيرة حكايات مرعبة عن التلبس . هذا التفسير يفضحه المؤلف في الصفحات التالية حين يبين انه ليس سوى تستر على مسؤولية الاسرة تجاه المريضة . وان مرض هذه الاخيرة ليس سوى نتيجة لما تعرضت له من استغلال وتحكم بمصيرها دون ان تملك حق الاختيار في البداية ثم ما تعرضت له على يد الاسرة من نبذ وتحقير فيما بعد دون ان تتمكن من رد الاذى عنها لان المطلوب منها هو ان تذعن مستسلمة لارادة تلك الاسرة .

كم من حالات مرضية وكم من صراعات زوجية وكم من ازمات بين الابناء والاباء في العالم المتخلف الذي يقمع كل حرية تعبير وكل ارادة اختيار عند افراده تفسر من خلال هذا التبرير السهل وتلقي مسؤوليته على الجن والعفاريت بشكل يحفظ النظام القائم ويمنع كل تساؤل حوله وكل تشكيك فيه … وبدل ان ينظر القائمون على امر المريض الذي هو في الحقيقة ضحية اضطراباتهم ومآزقهم العلائقية والمعبر عن رغباتهم المريضة في الاسباب الحقيقية للمرض والتي لابد ان تضعهم امام مسؤولياتهم الفعلية نراهم يذهبون للبحث عن العلة في جني او عفريت قد تلبسه اثر حادثة يخلقونها او يتخيلونها .

ثم هناك مشكلة تحكم الجن والعفاريت في مسائل الزواج والخطبة والعلاقات الجنسية . كل الازمات الزوجية والجنسية تلصق بهذه الكائنات الخفية بدل ان توضع في اطارها الحقيقي وترد الى سببها الفعلي الاجتماعي الاسري النفسي . فالعزلة والفصل بين النسين وسوء الاختيار الزوجي نتيجة للعلاقات التي يفرضها الاهل وروابط المصاهرة التي تقام لخدمة مصالحهم ويستخدم فيها الابناء كمجرد ادوات لخدمة هذه المصالح والامراض الجنسية النفسية الناتجة عن القمع الجنسي هي وحدها المسؤولة عن الازمات الزوجية . ولكن طرح المسالة بهذا الشكل يهدد امتيازات الاسرة التسلطة والقائمين على راسها ويهدد النظام السائد في الجماعة الذي لا يخدم في النهاية سوى هذه الامتيازات . ليس هناك اذا اكثر تضليلا وخداعا من القاء المسؤولية على الكائنات الخفية ثم البحث عن ذلك الحل من خلال مختلف ضروب الشعوذة .

ومن الطبيعي ان يستفحل الاعتقاد بالخرافات حول الجن والعفاريت بين النساء نظرا لوضعية القهر المفرط التي تفرض عليهن في المجتمع النامي . ومن الطبيعي ان تلجا النساء الى مختلف اساليب الشعوذة لحل ازماتهن الزوجية والعاطفية والجنسية طالما سدت امامهن كل سبل التاثير الفعلي في الواقع المفروض عليهن وطالما استلبت منهن ارادة التحكم في المصير . وهكذا تسقط على هذه الكائنات الخفية قدرات كبيرة على تحقيق ما يعجز المرء عن تحقيقه بجهده كما تسقط عليها كل المصائب والشرور والاخطار . ويتخذ الانسان المقهور في الحالتين وسائل معينة لدرء شرورها من ناحية واسترضائها وجلبها الى صفه حليفة له في معركته مع اعدائه وخادمة لمصالحه من ناحية ثانية . ويبرز المشعوذون الذين يتاجرون بمآسي الانسان المقهور كوسطاء بينه وبين هذه القوى . ويحيط هؤلاء انفسهم بجو غريب ويتلون احاديث وادعية مبهمة يزعمون انها لغة التخاطب مع الجان . ويمزون هذه اللغة ببعض التسابيح الدينية زيادة في التضليل وادخال الاقتناع في نفس ضحيتهم بانهم يمارسون طقوسا دينية مما يلعب على وتر ايمانه ويدفع به الى التسليم لهم ولمطالبهم الابتزازية التي لا تنتهي وترهقه من امره عسرا برغم ارضاء هذا او ذاك من ملوك الجن او ملكاته وهو كائن كثير الطلبات عادة لا يرضى قبل استنزاف الضحية .

بالاضافة الى الوسائل المكلفة جدا في التقرب من هذه الكائنات الخفية بواسطة المشعوذين بغية تسخيرها لخدمة بعض المآرب هناك طقوس وممارسات لدرء شرها . يتوسلون الى ذلك : الرقى والتعاويذ والاحجبة ذات الزعم الديني لانها تطرد وتبعد الارواح الشريرة وتكف اذاها ولكن يبقى ان اشهر هذه الممارسات هو الزار

الزار هو حفل استخراج العفاريت والارواح الشريرة واستئصالها من الجسد الذي حلت فيه كي يشفى من المرض الناتج عن حلولها هذا . وكما يشفي الطبيب من امراض الجسد فان المشعوذ هو طبيب النفوس المريضة التي اصابها مس من عفريت او جان . وكما يستدعي طب الجسد مهارة في معرفة المرض اسبابه وعلاجه كذلك يستدعي المس والتلبس مهارة المشعوذ في التعامل مع الارواح الشريرة وطرق طردها .

وتاخذ حفلة الزار شكل طقوس لها اصولها ومستلزماتها وشيوخها او شيخاتها . ويدعي هؤلاء القدرة على التواصل مع هذه الارواح من خلال تحالف مزعوم مع امرائها وملوكها التي تستطيع ان تامر اتباعها كي تكف شرها عن المريض او تغادر جسده . ولكن الثمن مرتفع طبعا تحت ستار طلبات كثيرة عريبة . من الناحية النفسية العلمية جوهر حفلة الزار هو عملية تفريج هستيري للكبت الجنسي والعدواني المتراكم والذي ينخر جسد المريض . ويصبح هذا التفريج ممكنا من خلال جو الحفلة الاخاذ الذي يعطل الضوابط الخلقية ويصد مشاعر الاثم المسؤولة عن كبت الرغبات والنزوات ( يعطل الانا الاعلى ) . ويحل شيخ الزار بسلطته محل الانا الاعلى للمريض من خلال عملية سيطرة نفسية عليه  يتوسل اليها الطبول والبخور والايحاء بالرقص الهستيري . هذا الجو الغريب يؤدي الى نوع من التحلل المؤقت من التزمت النفسي تطفو خلاله المكبوتات على السطح وتثار الهوامات اللاواعية من خلال البخور والطبول وبعض الادوات ذات الرمزية القضيبية والذوبان الغلمي في شخصية شيخ الزار او شيخته .وعندما تنصرف المكبوتات على هذا الشكل وتشبع الرغبات الجنسية بشكل خيالي من خلال الرضوخ لسلطة شيخ الزار يخف ضغط اللاوعي ويشعر المريض بالارتياح لما يلازمه من للتازم الكامن في اعماق النفس . على ان حفلة الزار تتضمن الى ذلك تمردا خياليا ومؤقتا على السلطة الاجتماعية والاسرية القامعة . والتي كانت في اصل العلة فتحل سلطة الشيخ محل سلطة المجتمع . من خلال التحالف مع الصور الاولية الطفلية للوالدين في حالة رضوخ غلمي له . على ان الامر في كل الحالات وليد القمع الجنسي والحيوي يسوقه النظام الاجتماعي . وهو من خلال التصريف المحدد خلال حفلة الزار يحتفظ لهذا النظام بسطوته على الافراد ويبعد عنه الشبهات وضروب الشك التي تؤلف مدخلا الى التغيير الاجتماعي . وهكذا فالسيطرة الخرافية على المعاناة تحتفظ في النهاية للنظام الاجتماعي الذي ولدها كل هيمنته وتبقى على رضوخ الافراد المقهورين لهذه الهيمنة .

 

 

الاولياء ومقاماتهم وكراماتهم.


تنتشر ظاهرة التعلق بالاولياء واللجوء اليهم لاستجلاب الخير ودرء الشر بكثرة في القطاعات المقهورة من السكان . وتتفشى خصوصا حيث يعم الجهل والعجز وقلة الحيلة  وحيث يتعرض الانسان لاقصى درجات الاعتباط من الطبيعة ياتيه كتهديد لقوته وصحته وولده ومن الانسان يصيبه كقمع وتسلط واستغلال . الانسان المقهور بحاجة الى ولي لشدة شعوره بعجزه وقصور امكاناته على التصدي والمجابهة والتاثير . ويحتاج الى حمايته نظرا لشدة احساسه بالعزاة والوحدة في مجابهة مصيره المحفوف بالمخاطر حين تلم به النوائب او يصاب في نفسه او ذويه او امنه او قوته . فالولي ملاذ ومحام يتقرب اليه ويتخذه حليفا ونصيرا كي يتوسط له لدى العناية الالهية . الولي هو ولي الله ومن خلال التقرب منه تتحقق الحاجات وتعم الرحمة الالهية . وتسقط على الولي قدرات خارقة لها علامات هي الكرامات التي تميزه عن سائر البشر .

تعترف الجماهير اجمالا بحدوث ظواهر خارقة على ايدي هؤلاء الاولياء تدل على ما يتمتعون به من امتياز عن سائر الناس  ومن قوة فائقة نظرا لقربهم من الاله . فالانبياء تقع على ايديهم المعجزات اما الاولياء فتظهر على ايديهم كرامات وخوارق هي في المرتبة الثانية بعد المعجزات . والكرامات قد تكون اجابة دعوة – تحقيق امنية اورجاء – او اظهارا للطعام في وقت الحاجة او تفجر ماء في زمن العطش او تخليصا من عدو . وكلها بالطبع تدل على قوة  هي على النقيض تماما من عجز الانسان المقهور وقصوره  وكلها تدل على ارتفاع مكانة وحظوة هي ايضا على النقيض تماما من ضعة الانسان المقهور ومهانته . ينقل الدكتور ابراهيم الخماش والدكتورة سلوى الخماش عن التاج السبكي في طبقاته الكبرى ان اهم الكرامات اربع وعشرون : احياء الموتى – كلام الموتى – انغلاق البحر والمشي على الماء – انزواء الارض – كلام الجمادات والحيوانات -ابراء العلل – طاعة الحيوانات – طي الزمان ونشر الزمان – استجابة الدعاء – امساك اللسان – جذب بعض القلوب – الاخبار ببعض المغيبات والكشف – الصبر على عدم الطعام والشراب – القدرة على تناول الكثير من الغذاء – الحفظ عن اكل الحرام – رؤية المكان البعيد من وراء الحجب – كفاية الله لهم الشر – التصور باطوار مختلفة -اطلاع الله اياهم على ذخائر الارض – عدم تاثير المسمومات –

من الواضح ان هذه الكرامات تشكل النقيض تماما لوضعية الانسان المقهور . فهي ترسم صورة الانسان الفائق الذي يعوض صورة الانسان المهان واقعيا . وهي تجسد اماني الجماهير المغلوبة على امرها في امل الخلاص من خلال وجود نموذج الجبروت الطفلي هذا ومن خلال امكانية التقرب من الولي صاحب الكرامات الخوارق الذي يفلت من قيود الواقع والزمان والمكان بواسطة الادعية والنذور والقرابين . تلك اوالية ضرورية للتوازن النفسي لهذه الجماهير العطشى الى ارضاء حاجاتها لمصير مغاير لمصيرها . فقط من خلال امل كهذا تظل حياة القهر ذات الافاق المسدودة والتهديد الدائم ممكنة .

تحدث الكرامات اجمالا لاناس اصطفتهم العناية الالهية دون ان يكون لهم في ذلك فضل او ارادة . فقد يكون صاحب الكرامة ذكيا او غبيا او جاهلا . وتلمج في ذلك الاعتباط الذي يميز وجود الانسان المقهور الخاضع لقدرية ليس له فيها اية مسؤولية . ذلك ما يدفع به الى القبول بقدرة من ناحية ويجنبه مشاعر الذنب النابعة من فشله من ناحية ثانية ويدغدغ في نفسه امله الطفلي بتغير ما ورائي يصيب مصيره فيحوله من حال الى حال من ناحية ثالثة . اذ قد يجد نفسه يوما صاحب كرامة دون ان يدري او يقصد ويكون له الخلاص والرفعة بعد بؤس وضعة . حينما يستفحل عجز الانسان وقصوره وحده الخلاص الخرافي يظل ممكنا كامل يبقي له على رمق من الحياة

تنتشر اضرحة الاولياء ومقاماتهم في كل ارجاء المجتمع المتخلف . ولا تكاد تخلو منه قرية او حي في المدن الكبرى . وتشكل هذه الاضرحة نواة التجمعات السكانية تقوم حولها اماكن العبادة ثم تحيط بها المساكن والمنازل والفنادق وتنتشر الاسواق التجارية . فهي اذا محجا وملجا واماكن للتبرك واستجلاب الخير كما انها اماكن للحماية من غوائل الطبيعة والناس . من جاور ضريح الولي فهو في مامن ولابد ان يناله قسط من بركته . تتجمع الجماهير المقهورة سكانيا حول اضرحة الاولياء ومقاماتهم كما يتجمع اعضاء حزب معين حول شخص الزعيم طلبا للهداية والحماية وتقربا من مصادر الخير .

وهناك كما يقول بدران والخماش اسطورة تخصص الاولياء في قضاء الحاجات . فهناك من يشفي من الصداع واخر من العقم وثالث من الحسد ورابع يرد الكيد وخامس يمد باسباب القوة على الحبيب الهاجر  وسادس ينصر على الغريم وغيره يرد الغائب وهكذا … ويبرز في التجمعات السكانية المتخلفة عدد من مقامات هؤلاء الاولياء يغطي كل الحاجات التي تعجز الجماهير عن تحقيقها بجهدها والتي قصر الحاكم في القيام بواجب تلبيتها . ويقوم على هذه المقامات خدام وعلماء – يدعون انفسهم علماء – يسهرون عليها ويلعبون دور الوساطة بين صاحب الحاجة وبين الولي ويقودون خطاه في التقرب منه والدخول عليه من خلال مجموعة من الطقوس والادعية والابتهالات . وهم ينسجون الاساطير حول الخوارق والكرامات التي ياتيه هذا الولي ويروجون لزيارته وتقديم النذور الى مقامه مستفيدين من ذلك اكبر فائدة مادية ممكنة ومستغلين صاحب الحاجة المتشبث بامال الخلاص بعد ان حلت به كارثة لا يستطيع لها دفعا ولم يجد له فيها عونا ابشع استغلال . وابرز دليل على ذلك وجود مقامات اولياء يدعي خدامها تخصصها بحل مشكلات النساء على اختلافها – زواج – انجاب – مساعدة على ضرة – رد الحبيب او الزوج الى المنزل -ابعاد خطر الطلاق …. بالطبع تشكل المراة ضحية مختارة لاستغلال هؤلاء الخدام نظرا لتفاقم حاجاتها وقصر حيلتها ووطاة القيود التي ترزح تحتها في المجتمع المتخلف نظرا لجهلها وسيطرة الخرافة على عقلها بعد ان وقعت ضحية نظام اجتماعي فرض عليها اقصى درجات الغبن . وهكذا الحال عموما فياس الانسان المقهور من انصاف الحاكم وعون القوي هو الذي يلجئه الى مقامات الاولياء يتلمس بركتها وعونها . والبركة تعني بالضرورة الشعور بالعجز والشعور باهمية البركة يعني التقليل من دور الانسان في الخلق والابداع والتغلب والتفوق.

بالاضافة الى النذور والقرابين تحتل الادعية والابتهالات مكانة خاصة في التقرب من الاولياء والتماس قضاء الحاجات على ايديهم وببركتهم وتتنوع الادعية لتشمل مختلف الاغراض وتصلح لقضاء الحاجات المتنوعة للفئات المغبونة . فهناك ادعية للشفاء من المرض واخرى لتفريج الغم وثالثة لازالة الكرب ورابعة لتوسيع الرزق وخامسة لتوكيد المحبة وسادسة للخلافات الزوجية وهكذا … بالطبع يعمل شيوخ الطرق وخدام المقامات على تعقيد الادعية وادخال التكلف والتحذلق اللغوي عليها واسباغ طابع الغرابة التي توهم الانسان المغبون الجاهل بعلم وفير يقوم وراءها وسر دفين يكمن فيها ويجعلها مفتاحا للوصول الى بركة الولي . من خلال ترك هذا الاثر الباهر في نفوس الجماهير واشعارها بالعجز امام قوة علم شيوخ الطرق . يرسخ هؤلاء مكانتهم كوسطاء لدى الاولياء واسترضائهم ويدفعون الجماهير الى الاستسلام لهم والرضوخ لاستغلالهم

والادعية في اساسها تقوم على امل سحري في الخلاص من خلال الاعتقاد بجبروت الافكار والكلمات وما تتضمنه من رغبات . وبمقدار انتشارها ينتشر العجز عن التصدي للواقع بالموضوعية والعقلانية المطلوبين . ويمكن اعتبارها كمرآة تعكس اعماق المجتمع من حيث شعور افراده المقهورين بالضياع والوحدة وبحثهم عن معجزة للخلاص . ولذلك فانها تحمل مكانة هامة جدا في سلوك المراة في العالم المتخلف في تعاملها مع ماساتها لانها الاكثر غبنا وعجزا وقهرا في المجتمع . ولانه من ناحية ثانية لم يترك لها من مجال للتاثير في الواقع سوى مجال التعلق الخرافي بجبروت الافكار من خلال ادعية الرجاء والتمني  وادعية اللعنة والسخط سواء بسواء .

ان الادعية تشيع نفسيا نوعا من الاطمئنان الى القدر والمصير وتبث هدوءا في وجود الانسان المتازم من خلال القناعة بان هناك دائما جهة ما ستتولى حل الازمة وتخليصه منها . ثم هي تمتص اذا كانت مطولة جزءا من القلق والتوتر النفسي . وقد تتحول الى طقس هجاسي مكتسبة كل خصائصه ووظائفه – التكرار والاعادة واتباع نمط محدد وتسلسل دقيق  واحتواؤها على موضوعات ضد خوافية واخرى تجنبية .

من خلال هذه الصور الخيرة للاولياء وكراماتهم وبركتهم والادعية وغيرها من وسائل التقرب منهم يملا الانسان المقهور خواء عالمه العاجز المحدد بامل القدرة على التصدي لواقعه والتحكم بمصيره بمقدار ما يتخذ من هذه الرموز حلفاء له . جبروت الرجاء يحل محل الفعل التغييري . روحية الاستجداء والاحتماء تحل محل المطالبة بالحق والتصدي لانتزاعه .

في القادم : الجن والعفاريت والشيطان ……………………………………….يتبع

السيطرة الخرافية على المصير في المجتمعات المتخلفة.


لا يستطيع الانسان ان يتحمل وضعية القهر والعجز ببساطة او ان يتقبلها بواقعيتها المادية الخام . لابد له في كل الحالات من الوصول  الى حل ما يستوعب ماساته ويقيض له شيئا من السيطرة عليها والا اصبحت الحياة مستحيلة . فاذا لم تتيسر الحلول الناجعة التي تمكنه من التحكم الفعلي بالواقع على مستوى ما لجا الى الحلول الخرافية والسحرية . اذا عزت السيطرة المادية على المصير حاول المرء توسل الاوهام يعلل بها النفس ويجمل بها الواقع ويستعين بتصوراتها على تحمل اعبائه . بذلك يصل الى شيئ من التوازن الوجودي الضروري لاستمراره . لا يتقبل الانسان الكارثة او الهزيمة او الخطوب او الفشل كامر واقع ولا يستطيع الاعتراف بمسؤوليته المباشرة في ما حل به . انه اما ان يهرب من الواقع او يلقي اللوم على الاخرين او يستجيب بالعدوان او يوهم نفسه بان الامر عابر .

السيطرة الخرافية على الواقع والتحكم السحري بالمصير هما اخر ما يتوسلهما عندما يعجز عن التصدي والمجابهة قبل ان ينهار ويستكين . وتشكل هذه السيطرة بالتالي احد خطوط الدفاع الاخيرة له . ويتناسب انتشار الخرافة والتفكير السحري في وسط ما مع شدة القهر والحرمان وتضخم الاحساس بالعجز وقلة الحيلة وانعدام الوسيلة . كلما طال عهده بالاعتباط ينصب عليه من الطبيعة والناس وضاقت امامه فرص الخلاص اندفع الى التماس النتائج من غير اسبابها واستبدال السببية المادية بالسببية الغيبية . ذلك هو كنه السيطرة الخرافية على المصير . تزدهر هذه السيطرة الخرافية بمختلف اشكالها التي سنعرض لها هنا .  

في عصور الانحطاط وما يصاحبها من تفشي الجهل والعوز وطمس ارادة القتال من اجل الحياة وصد الفكر النقدي والتحليل العلمي للظواهر واستفحال التسلط  وهكذا تنتشر ممارسات سحرية خرافية وشعوذات تتلاعب بامل الانسان في الخلاص او تحرك خوفه من الحاضر وقلقه على المستقبل . وبقدر ما تدخل الاطمئنان الوهمي الى نفس الانسان المقهور فانها تستخدم كاداة للارتزاق من قبل المشعوذين الذين يدعون العلم بها والقدرة على تغيير احوال الانسان ومساعدته على التحكم بمصيره من خلالها . 

تتحول هذه الممارسات الى تجارة رائجة تنتشر في اوساط البسطاء من الناس تسلبهم القليل الذي يمكن ان يملكوه على امل الخلاص مما يحل بهم من ارزاء الحياة . ويحيط المشعوذون انفسهم عادة ببعض المظاهر الغريبة في الملبس والمسلك والحديث . ويضعون ضحيتهم اثناء ممارسة هذه الوسائل في جو غريب فيه الاعجاب الكثير والرهبة الكبيرة  يحرك الامل ويثير الخوف . يتوسلون مواد وادوات وطقوسا وادعية وظيفتها الاساسية ان تبهر صاحب الحاجة وتشل مقاومته وتعطل تفكيره وتدفع به الى الاستسلام لممارستهم وطلباتهم الكثيرة والمعجزة . انها تخلق لديه حالة من التبعية النكوصية عليهم وعلى قدراتهم التي تضخم من خلال ما احيطت به من غريب اللفظ والطقس .

يتحالف المشعوذون مع التجار واصحاب السلطان على الانسان المقهور لتحقيق ماربهم المشتركة لقاء ما يعللون به نفسه من اوهام الخلاص ودرء الشر او الخطر وتغيير المصير .  ويشجع الحكام في المجتمعات المتخلفة هذه الممارسات بوسائل مختلفة ابرزها رعاية المقامات وذوي الكرامات ورعاية الطرق التي تتلبس لباسا دينيا حتى يعم الجهل  وتتاصل الاستكانة وتشيع الخرافة بشكل يطمس الواقع كليا ويصرف الناس عن التصدي الفعال والموضوعي له . وهو ما يحفظ لهؤلاء الحكام مكانتهم ويحول الانظار عنهم كمسؤولين اساسيين عما يصيب المجتمع من تخلف وانحطاط او ما يلم به من كوارث وازمات .  

من خلال هذا التحالف وذاك التشجيع تتاصل السيطرة الخرافية على المصير في نفسية الانسان المتخلف كي تبلغ مرتبة الايمان الذي لا يتزعزع والعقيدة التي لا تمس . ويساعد على هذا الامر ما تحاط به هذه الممارسات على اختلالها من طابع ديني يجعلها تدخل في فئة المقدس الذي يجب الايمان به دون مناقشة  والذي يتحول السؤال حوله الى تشكيك بالايمان ومساس بالمقدسات . هناك دائما محاولة لالباس الممارسات السحرية والمعتقدات الخرافية لباسا دينيا يجعلها تصل مباشرة الى قلب الانسان المقهور ويربطها بايمانه الديني مما يزيد من سطوتها عليه ويدفعه الى التمسك بها . وتصل الخرافة الى مرتبة تعطيل الفكر النقدي والتحليل الموضوعي للواقع واصطناع السببية المادية في التصدي له مشكلة عقبة فعلية امام التغيير وعاملا قويا في استفحال التخلف . 

تقوم اساليب السيطرة الخرافية على المصير على اساس نفسية نكوصية . يتقهقر الانسان المتخلف الذي يؤمن بها من العقلانية التي يجب ان تميز حياة الراشدين الى مرحلة التفكير الطفلي الذي يخلط الواقع بالخيال والحقائق بالرغبات والصعاب المادية بالمخاوف الذاتية . تطغى عليه الذاتية الطفلية ويقع في شرك التفكير الجبروتي . انه يسقط على ممارسي الشعوذة وعلى وسائل التصدي السحري للواقع القدرة المطلقة التي كان يعتقد انها تميز والديه اللذين يبدوان له قادرين على كل شيئ مالكين لزمام كل امر . ويقيم مع عوامل السيطرة الخرافية ورموزها نفس علاقة الاتكال الطفلي التي كانت له مع والديه والتي تستبدل فيما بعد بالاتكال الديني . في كل هذه الحالات هناك احتماء برموز القوة التي تسيطر على القدر من الاخطار العديدة التي تتهدد الوجود – وجود الطفل كوجود الانسان المتخلف – يشكل هذا الاحتماء الضمانة الوحيدة له نظرا لعجزه وقلة حيلته مما يعطل الاعتماد  على القوي الذاتية وينفي المسؤولية الشخصية في تحمل اعباء الحياة والمصير . وبمقدار هذا الانتفاء وذاك التعطيل لابد لاتكاليته من التفاقم مما يدفع به الى مزيد من توسل الممارسات الخرافية . 

تاخذ السيطرة الخرافية على المصير على اختلاف اساليبها طابعا ثنائيا في محتواها . فهي تتلخص على الدوام بازواج من الاضداد : جلب الحظ ودرء النحس الحصول على الخير وابعاد الشر الامل المتفائل بالمستقبل والخوف المتشائم منه اثارة الحب لدى الاخرين والحرب ضد عدوانيتهم  وهكذا . كل ممارسة خرافية تهدف الى تحقيق الامرين معا بشكل ما . وهي في جميع الحالات تدور حول القضايا الوجدانية الاساسية التي تميز وجود الانسان المتخلف . هناك رابطة وظيفية دينامية تجمع مختلف هذه الممارسات في بنية متماسكة مكونة من اقطاب تتمم بعضها بعضا . 

– السيطرة على الحاضر : يتوسل الانسان المقهور اساليب عدة للسيطرة الخرافية على حاضره وادخال شيئ من الطمانينة الى نفسه والتوازن الى حياته . انه يتعلق ببعض رموز الخير ويتقرب منه بطرق محددة ويخشى بعض رموز الشر والتهديد الوجودي ويلتمس سبيله الى تجنب اذاها بممارسات محددة ايضا . اما رموز الخير فهي الاولياء وكراماتهم واضرحتهم واما رموز الشر فهي الجن والعفاريت والشيطان . واما التقرب من الاولى فيتم من خلال الادعية والنذور والقرابين . واما تجنب الثانية فيتحقق من خلال السحر والكتابة والتعاويذ والرقى . نحن هنا امام ظاهرة انشطار نفسي للوجود الى نقيضين مطلقين هما الخير والشر . فيركز الخير كله والبحث عن الملاذ في الاولياء . يسقط عليهم الصور المثالية الطيبة التي تكمن في لاوعيه . فالولي بمقامه وكراماته ليس سوى اسقاط للصور المثالية للام الحنون المعطاء  والاب الحامي الرحيم الصور التي تغرس جذورها في اعماق لاوعي طفولتنا وتشكل نموذج كل خير ومحبة وامل ورجاء وملجا وملاذ فيما بعد كي تمكننا من مجابهة صروف الدهر وخطوب الحياة . كما انه يركز الشر كله والسوء كله والتهديد الاساسي لوجوده في الجن والعفاريت والشيطان . يسقط عليهم بدورهم كل العدوانية المتراكمة في نفسه نتيجة الاحباط والعجز والتي تتخذ طابعا اضطهاديا مهددا لكيانه ونموذجا لمصدر الشر على حياته. كل احاسيس السوء والاذى تسقط على هذه الكائنات الخفية التي تتربص به ولا تنفك تنال منه ان غفل عنها . هذه الكائنات تمثل الصور السيئة التي تكونت لدينا عن الوالدين في الطفولة ايضا والتي تستقطب كل احباطات الطفولة ومخاوفها ومشاعر الحقد والاسى والاضطهاد والياس وخوف الفناء وهي تمثل فيما بعد النموذج الاولي للسوء والاذى والتهديد . ومن خصائص هذه الصور ان تقمع حتى تكبت في اللاوعي كي تمارس هناك تاثيرها المدمر على التوازن النفسي . وهي لذلك لابد حين تتفاقم شدتها من ان تصرف نحو الخارج شانها شان النزوة العدوانية التي تستمد طاقتها منها . بهذا التصريف الذي يتوسل معظم الاحيان الاسقاط على الطبيعة القاسية وظواهرها او الدهر ونوائبه او الناس وكيدهم يتخفف الانسان من تاثيرها الداخلي المدمر ويحتفظ لنفسه ببعض التوازن . 

وهكذا يضع الانسان المقهور امله في الصور الخيرة ورموزها الخرافية . كما يسلط مخاوفه وعجزه ومشاعر ذنبه الناتجة عن فشله الوجودي على اعداء خرافيين بدورهم . ومن خلال تجنب هؤلاء والتقرب من اولئك تتم له السيطرة الخرافية على حاضره ويشعر بشيئ من التحكم بالقوى التي تحرك مصيره  .  يضاف الى رموز الشر الماورائية – جن وعفاريت – تفشي ظاهرة الحسد والعلاقات الاضطهادية بين الانسان المقهور والاخرين . هناك خوف دائم من الاذى يلحق به اذا اصابه غم . او رزق من نعمة او خير . انه يخفيه ويتستر عليه خشية عيون الحاسدين التي تهدد ما كسب ويتوسل لدرء هذا الحسد وسائل متنوعة تبطل مفعول النظرة الحسود – الحقود في الحقيقفة – هنا ايضا يسقط ما يلم به من شرور تذهب بنعمته على النوايا العدوانية للعين الحاسدة وسائل دفاعية تتخذ طابعا خرافيا اضطهاديا في معظم الاحيان .   ونقف الان قليلا عند بعض هذه الظواهر والرموز كي نتعرف عليها ونكتفي ب : – الاولياء ومقاماتهم وكراماتهم  . – والجن والعفاريت والشيطان . 

يتبع………………………………………………………………………………

حالات الغيبوبة :فقدان الوعي واضطراب الوظائف الحيوية .


ما المقصود بالوعي ؟

حين نقول عن شخص ما انه في كامل وعيه فاننا ندرك جيدا ما الذي نقصده بذلك . غير انه من المؤكد اننا سوف نجد صعوبة كبرى اذا نحن حاولنا ان نقدم  تعريفا دقيقا للفظة الوعي Conscience . وتعود هذه الصعوبة الى تداخل عدة وظائف عصبية ونفسية في هذا المجال . اذ لا يمكن فصل الوعي عن الانشطة الاخرى مثل الادراك والتركيز والذكاء والنشاط الحركي فضلا عن الجوانب العاطفية والوجدانية . وهناك جانب يؤكد عليه علماء الفزيولوجيا والاطباء وهو ان الوعي لا يتلخص في اليقظة  Vigilance . فهم يعتبرون انه من الممكن تعريف اليقظة كنقيض للنوم . بمعنى انها حالة يدرك خلالها الفرد ما حوله عن طريق الحواس ويقوم بسلوكات تستجيب او تتلاءم مع مجموع المعطيات الادراكية . اما الوعي فانه لا ينحصر في هذا الذي ذكرناه . انه معرفة Connaissance وتمثل Représentation  لما يعيشه الفرد . وتتلى هذه المعرفة وهذا التمثل على الاصعدة الادراكية والحركية والذهنية والوجدانية . وكذلك على مستوى الذاكرة .

الجهاز العصبي وحالة الوعي :

يتفق الاخصائيون على ان حالة الوعي ليست وقفا على نشاط منطقة معينة من الجهاز العصبي دون غيرها . فجميع مكونات هذا الجهاز تساهم بشكل او بآخر في هذه الوظيفة العليا . وعلى العكس من ذلك اثبتت الابحاث والتجارب المتوالية ان حالة اليقظة ترتبط ارتباطا وثيقا بنشاط جهاز بعينه . ويتعلق الامر بالجهاز السردي الصاعد الذي  يوجد بين القنطرة والمخيخ والذي يتولى مهمة ابقاء الدماغ على حالة من اليقظة تتطلبها انشطة الحياة اليومية . ويتميز هذا الجهاز السردي ببنية تشريحية بالغة التعقيد . اذ تكفي الاشارة الى العدد الهائل للترابطات الليفية بين الجهاز الذي نتحدث عنه وباقي مكونات الدماغ . مما يدل على مدى التشابك بين الوظائف العصبية على اختلافها .

الغيبوبة : درجات متفاوتة الخطورة :

يركز تشخيص حالة الغيبوبة Coma على انعدام استجابة المريض لاي من المنبهات Stimulus  التي تهدف الى اثارة رد فعل لديه . فلا الاسئلة التي تطرح عليه ولا المنبهات الحاسية  كالجلبة الشديدة او الضوء الكثيف ، ولا المثيرات الحسية كالوخز بقادرة على ان تخلق لديه اي نوع من الاستجابة . وينطبق هذا التعريف في الواقع على حالات الغيبوبة العميقة . اما الحالات الاقل عمقا فهي تتميز بوجود شيئ من الاستجابة لبعض المنبهات . وهكذا فان المريض المصاب بغيبوبة خفيفة  Coma Leger يبقى قادرا على الادلاء ببعض الاجابات المبهمة على الاسئلة التي تطرح عليه . وذلك على الرغم من ذهوله ومن الانعدام المطلق لاية مبادرة حركية لديه .

اما الغيبوبة الثابتة  Coma Confirmé  فهي اعمق بكثير من الخفيفة . وخلالها لا يصدر عن المريض سوى بعض الهمهمات المتقطعة . وقد يحدث له مع ذلك ان يغير من وضع جسده بكيفية مباغتة . ووحدها المنبهات المؤلمة مثل الوخز قد تؤدي في هذه المرحلة الى بعض الاستجابات العضلية غير المتناسقة .

واخيرا فان الغيبوبة العميقة Coma Carus  تتميز بالجمود المطلق للمريض وبانعدام كلي للاستجابة لمختلف المنبهات التي اشرنا اليها . واذا ما تفاقمت هذه الغيبوب العميقة – كما يرى الاخصائيون – فان المريض سوف يسوخ تدريجيا في ما يسمى بالغيبوبة المتجاوزة  Coma Dépassé .  او التي لا رجعة فيها .

اهم اسباب الغيبوبة :

بعد تشخيص حالة الغيبوبة يكون لزاما على الطبيب ان يحدد السبب الذي ادى الى هذه الغيبوبة . وقديكون هذا السبب واضحا من البداية كما هو الشان مثلا بالنسبة الى رضوض الجمجمة والدماغ . اما في الحالات الاخرى فان التشخيص السببي قد يتطلب اجراء العديد من الفحوص الدقيقة . وهي فحوص لا تجرى عادة إلا بالمستشفيات ذات التجهيز العصري والمتطور . والواقع ان هناك اسبابا كثيرة جدا يمكن ان تؤدي الى حالة غيبوبة . ومن هذه الاسباب ما يمس الجهاز العصبي ومنها ما يرتبط بتسممات او باضطرابات او بامراض عامة .

الاسباب المرتبطة بالجهاز العصبي :

وهي متعددة ومتباينة فبالاضافة الى رضوض الجمجمة والدماغ التي سبقت الاشارة اليها نجد الحوادث الوعائية المخية التي تحتل مكانة هامة في هذا المجال وقد تكون هذه الحوادث على شكل نزيف مخي او احتشاء في انسجة المخ .

ويعتبر الصرع كذلك من العوامل التي قد تؤدي الى الغيبوبة . والشيئ نفسه بالسبة الى التهاب السحايا الحاد او المزمن والاعفانات الدماغية وبعض دمامل المخ . كما ان بعض اعتلالات الدماغ الناجمة عن ادمان الكحول تتطور في نسبة غير قليلة من الحالات نحو حدوث الغيبوبة . وهناك اسباب اخرى مرتبطة بالجهاز العصبي لكنها نادرة الحدوث .

الاسباب العامة :

وهي بدورها كثيرة  وعلى راسها داء السكري Diabète وقصور الكبد الحاد او المزمن والقصور الكلوي والوهط Collapsus  اي الهبوط الشديد في الدورة الدموية . ومن ضمن هذه الاسباب العامة نجد ايضا بعض الاعفانات مثل الحمى التيفية والخناق الغشائي في اشكالهما الخطيرة . كما تؤدي الحالات الموغلة للقصور الدرقي احيانا الى حدوث الغيبوبة .

وهناك مرضى يؤتى بهم الى مصلحة الانعاش فاقدين لوعيهم من جراء تناولهم لمقادير كبيرة من الادوية وهم غالبا ما يقدمون على ذلك بهدف وضع حد لحياتهم . وكثيرا ما تكون الادوية المستعملة من فئة المهدئات او مضادات الذهان . ولا يحب ان نغفل بطبيعة الحال ذلك النوع من الغيبوبة الذي ينجم عن التسمم باوكسيد الكاربون والذي كثيرا ما يصيب عدة افراد من نفس العائلة .

واخيرا نشير الى ان السكر الحاد قد يتطور بدوره نحو غيبوبة لا تخلو من خطورة خاصة اذا لم يتلق الشخص المعني الاسعافات الضرورية بكيفية سريعة .

الصرع النفسي الحركي : مزيج من الاضطرابات النفسية والعصبية .


يحتل الصرع النفسي الحركي – Epilepsie Psycho- Motrice –  مكانة هامة ضمن الاشكال السريرية لهذا المرض . وتختلف الاعراض التي تنجم عنه من مريض الى آخر وأحيانل من نوبة الى أخرى . وقد تتلخص هذه الاعراض في ما يسميه الاطباء ب ّالغياب الكاذب ّ . ومرد هذه التسمية الى ان هذا شبيه الى حد ما ب ّالغياب ّ الذي وصف اثناء الحديث عن الصرع الصغير . واثناء هذا الغياب الكاذب يبدو المريض وقد انفصل عن الواقع الذي يكتنفه فلم يعد يتعرف على الاشخاص ولا على الامكنة . واذا ما طرح عليه سؤال ما فانه لا يجيب عنه او هو قد يدلي بجواب لا علاقة له البتة بالسؤال المطروح . وكثيرا ما نراه خلال هذه النوبة وهو يقوم بنشاط معين بكيفية اوتوماتيكية لا دخل للارادة فيها . فهو يبدو على سبيل المثال كمن يبحث عن شيئ ضاع منه لكن من غير ادراك لما يقوم به . ويستمر الغياب الكاذب عدة دقائق خلافا لما يحدث في الصرع الصغير . ولا يذكر المريض اي شيئ عن هذه النوبة بعد حدوثها . والى جانب هذا الغياب الكاذب نجد اشكالا سريرية اخرى للمرض تتميز باعراض اكثر تعقيدا وهي اعراض تمس في الوقت نفسه الجانب النفسي والوجداني والجانب المتعلق بوظائف الحواس .

اما الخلفية المشتركة لهذه الاعراض فهي تتمثل في نوع من الذهول تختلف درجته حسب الحالات . وعلى هذه الخلفية يصير المريض معرضا خلال النوبة للاوهام من كل صنف . فهو قد يرى الاشياء من حوله تصغر الى ان تختفي او تكبر الى ما لا نهاية . ما انه قد يرى وجوه الاشخاص المحيطين به وقد تغيرت بكيفية غريبة او مرعبة . وكثيرا ما تكون الاعراض المذورة مصحوبة بظواهر غير معتادة ترتبط بنشاط الذاكرة . كان تعبر ذهن المريض في وقت قصير جدا سلسلة من الذكريات البعيدة فيشعر كانه يعيشها من جديد بكل زخمها الوجداني . ويضطرب المزاج اضطرابا شديدا خلال هذه النوبات . مما قد يؤدي بالمريض الى بعض ردود الفعل العنيفة جدا . لكن هناك بعض الحالات النادرة التي تؤدي على عكس ما ذكرناه الى احساس بالغبطة او بالانتشاء النفسي !

ومن بين الاشكال السريرية لهذا النوع من الصرع نجد ذلك الشكل الخاص الذي قد يجعل المريض يغادر بيته ليتسكع – وهو في حالة اشبه ما تكون بالحلم – عدة ساعات واحيانا عدة ايام  بل ان المريض حين تنتابه هذه الحالة قد يسافر الى مدينة اخرى مستعملا وسائل النقل العمومية . ولكنه بعد مرور النوبة يصير عاجزا عن تذكر ما حدث له . او هو قد لا يحتفظ سوى بذكرى مبهمة عن كل ما صادفه اثناء رحلته المرضية تلك . 

ونظرا لتنوع الاعراض ولغرابتها فان تشخيص مثل هذه الاشكال السريرية للصرع يطرح العديد من المتاعب . اما مآل هؤلاء المرضى فانه مربوط بكون الادوية المعتادة للصرع غير فعالة جدا في ما يتعلق بهذا الشكل السريري بالذات . مع استثناء الحالات التي تنجم عن اورام دماغية والتي تستوجب استئصال الورم المسبب للنوبات بطبيعة الحال .  

مبائ العلاج


لقد ذكرنا انفا ان الطبيب يسعى دائما بعد تشخيص الصرع الى تحديد سببه بناء على تقنيات الفحص المختلفة . غير ان هذا المرض لا يرتبط دائما بسبب عضوي

ففي نسبة مرتفعة من الحالات لا يتوصل الطب الحديث الى اكتشاف سبب محدد وهي الحالات التي يسميها الاخصائيون الصرع الجوهري . ومن الواضح ان العلاج

الجذري سوف يتوجه مباشرة الى السبب كلما عرف هذا الاخير فاذا كان الامر يتعلق مثلا بورم دماغي فان الجراح سوف يستاصل هذا الورم وانئذ يزول الصرع

بزوال سببه . غير انه لابد من التاكيد في هذا السياق على ان الصرع الجوهري يبقى هو الاكثر حدوثا على شكل نوبات كبرى . وفي هذه الحالة يكون على المريض

ان يتناول الادوية المضادة للصرع .بكيفية منتظمة تحت اشراف طبي .

وفي جل الاحيان يستمر هذا العلاج مدى الحياة . وثمة انواع مختلفة من مضادات الصرع يختار منها الطبيب المعالج اكثرها ملاءمة لحالة المريض . وهو يبدا بوصف

مقادير ضئيلة شيئا ما من الدواء ثم يغيرها تدريجيا الى ان يتوصل الى المقادير الفعالة اي تلك التي تجعل المريض في مامن من النوبات . وكثيرا ما يتم اللجوء الى نوعين

من الادوية في الوقت نفسه بغية التوصل الى الفعالية المذكورة .

وغير خاف ان العلاقة بين الطبيب والمريض تكتسي اهمية شديدة في هذا المجال . فالصرع الجوهري مرض مزمن يتطلب تكفلا طبيا طويل المدى . ثم انه موضوع

لاعتقادات غريبة كثيرا ما تخلق حالة بلبلة في نفس المريض وكذلك في نفوس ذويه ولهذا يقوم الطبيب المعالج بالموازاة مع وصف الدواء  بتقديم شروح مبسطة عن

المرض وعن ايوالياته واعراضه كما انه سوف سوف يفسر للمريض ولافراد عائلته ضرورة الانضباط في ما يخص الادوية وخطورة الانقطاع المفاجئ عن تناولها

اذ ان هذا الانقطاع المفاجئ يعرض المريض لنوبات كبرى متتالية ولمضاعفات اخرى عديدة . وفي الوقت نفسه تقدم للمصاب بالصرع ارشادات صحية عامة مثل

ضرورة تجنب السهر والامتناع عن المشروبات الكحولية اضافة الى احتياطات اخرى مختلفة .

وبفضل هذه الاجراءات البسيطة يتوصل جل المرضى بالصرع الى عيش حياة عادية تقريبا خلافا لما يعتقده الكثيرون بشان هذا المرض المزمن .

احتياطات ينبغي اتخاذها لدى المصابين بالنوبات الكبرى ك

تمثل نوبات الصرع الكبرى اكثر اشكال المرض حدوثا وهي تتطلب كما اسلفنا علاجا منتظما قد يستمر طوال الحياة . واذا كان هذا العلاج المنتظم يجعل المريض في

مامن من النوبات في اغلب الاحيان فان الصرع يضل يثير مع ذلك عددا كبيرا من التساؤلات والمخاوف في نفوس المصابين به وكذلك في نفوس ذويهم . وكثيرا

تنصب هذه التساؤلات على ظروف الحياة اليومية للمريض بالصرع وعلى الاحتياطات التي ينبغي اتخاذها في هذا الموقف او ذاك . وفي ما يلي بعض التوضيحات

حول اهم التساؤلات المذكورة :

– التغذية : ليس هناك من اجراءات خاصة يتوجب اتخاذها في هذا المجال الا في ما يتعلق بالمهيجات – القهوة والشاي – التي لا يحسن بالمريض ان يتناولها بكثرة

وبطبيعة الحال فان الاعراض عن المشروبات الكحولية هو اجراء يفرضه الحس السليم مادام قد ثبت ان الكحول يؤدي الى حدوث النوبة .

– النوم والنشاط الجنسي : على المريض بالصرع ان يتفادى السهر وان يحرس دائما على النوم في وقت مبكر نسبيا . ذلك ان جل الدراسات الطبية قد برهنت على

ان السهر المتكرر يعد من بين العوامل المساعدة على حدوث نوبة الصرع وبخاصة اذا كان هذا السهر مقرونا بالاقبال على المشروبات الكحولية . وبالنسبة للنشاط

الجنسي لدى المريض بالصرع  يرى الاخصائيون انه لا يستوجب اي احتياط  مرتبط  بطبيعة هذا المرض بمعنى ان الصرع لا يتعارض اطلاقا مع حياة جنسية عادية.

– العمل : ان جل المرضى بالصرع من العاملين يمارسون عملهم بكيفية طبيعية . اما في ما يخص نسبة تعرضهم لحوادث الشغل فالحق انها لا تختلف عن تلك النسبة

التي نشاهدها عند غيرهم شرط ان يتخذ حد ادنى من الاحتياطات بطبيعة الحال.

– الرياضة والسياقة : هناك العديد من الرياضات التي يستطيع المريض ممارستها دون ان يخشى شيئا . ونقصد هنا الانواع الرياضية التي لا تتضمن اية خطورة

اذا ما حدث ان اصيب هذا المريض بالنوبة اثناء ممارستها . اما بالنسبة للسباحة والغطس وما الى ذلك من الرياضات التي تعرض المريض بالصرع لما لا تحمد

عقباه اذا ما حدثت النوبة فان من الواجب الامتناع  عنها بكيفية نهائية .  وفي ما يخص السياقة فان هناك اخصائيين يعتقدون بوجوب امتناع المصابين بهذا المرض

عن سياقة السيارة او غيرها امتناعا كليا .

الصرع نوبات مفاجئة ومعتقدات غريبة.


الصرع نوبات مفاجئة ومعتقدات غريبة.
ما من شك في ان المتامل لتاريخ مرض الصرع سوف يصاب بنوع من الدهشة حين يطلع على ذلك العدد الكبير من المعتقدات الغريبة التي بقيت مرتبطة

بهذا المرض طوال قرون وقرون.

يجزم المؤرخون ان القناعات المخطئة التي كانت متداولة بشان مرض الصرع – epilepsie-  كانت تؤدي الى التنكيل بضحايا الصرع والى ابعادهم

والتخلص منهم بشتى الوسائل اتقاء للارواح الشريرة التي تسكنهم حسب ما كان شائعا خلال تلك الازمنة . ومن المؤكد ان الاختلاجات والحركات العنيفة

اللاارادة التي تنتاب المريض بالصرع بكيفية مباغتة قد غذت تلك المعتقدات وساهمت في تجدرها في الاذهان . وذلك على الرغم من ان عددا كبيرا من

الاطباء قد حاولوا على مر العصور ان يدحضوا هذه النظرة اللاعلمية للمريض وان يقدموا تفسيرا منطقيا لاعراضه . لكن هؤلاء الاطباء الذين كانوا سابقين

لعصرهم بحق لم يجدوا الاذان الصاغية يومئذ للفرضيات العلمية التي قدموها عن هذا الداء . ونذكر على سبيل المثال ان ابن سينا قد تناول موضوع الصرع

في كتاب القانون وعرفه بانه علة تمنع الاعضاء النفسية عن افعال الحس والحركة منعا غير تام . كما انه تطرق الى اسبابه واعراضه بما يلزم من التفصيل .

وبطبيعة الحال فان التعليلات والفرضيات التي اعتمدها ابن سينا وغيره من اطباء العصور السالفة بخصوص اسباب هذا المرض تبدو اليوم متجاوزة . بل ان

الطب الحديث نفسه لم يستطع بعد ان ينفذ الى كافة اسرار الصرع رغم التطور الكبير لطرق الفحص والاستكشاف.

الصرع ومظاهره السريرية المتعددة .

لقد لاحظ دارسو هذا المرض منذ القديم ان تعدد مظاهره السريرية يمثل احد ى اهم خاصياته. وهذا التعدد بالذات هو الذي يجعل تعريف المرض امرا غير يسير

على الصعيد السريري او العيادي . ولهذا السبب سعى الاخصائيون الى تعريف المرض بناء على الاضطراب الفيزيولوجي الذي يشكل بحق خلفية موحدة لكافة

اشكال ومظاهر هذا المرض . ويتعلق الامر بنشاط مفرط ومباغت لمجموعة من الخلايا الدماغية . اما اختلاف اعراض الصرع فانه يتوقف على المنطقة الدماغية

التي تشهد هذا النشاط المرضي المفرط . وسوف نتحدث في ما يلي عن اهم اشكال هذا المرض قبل الانتقال الى اسبابه المختلفة .

– النوبة الكبرى للصرع :

تطلق تسمية النوبة الكبرى – Grand Mal – على ذلك الشكل السريري الشائع للمرض الذي يتميز بحدوث اختلاجات تشمل الجسد كله . وهذه النوبة الكبرى هي

التي تتبادر الى اذهان الناس عادة اثناء الحديث عن الصرع .في حين تبقى الاشكال السريرية الاخرى غير معروفة بما فيه الكفاية . وتتكون نوبة الصرع الكبرى

من عدة مراحل متتالية :

– مرحلة فقدان الوعي : وهي سريعة الحدوث كما انها مباغتة تماما في اغلب الحالات . واحيانا يطلق المريض صيحة حادة قبل ان يسقط ارضا وهو فاقد لوعيه.

– مرحلة التوتر العضلي : تبدا هذه المرحلة مباشرة بعد فقدان الوعي . وخلالها تتوتر عضلات المريض وتنقبض انقباضا شديدا ، وهو ما يبدو بوضوح على

مستوى الفكين مثلا . ويتصلب الجذع وكذلك الاطراف وتتوقف الحركات التنفسية . كما يصاب هذا المريض بشحوب بين يعقبه ازرقاق للبشرة بسبب نقص

الاوكسجين . وكثيرا ما يحدث تبول لا ارادي خلال هذه المرحلة التي تستمر في المتوسط ما بين بضع ثوان ودقيقة واحدة الى دقيقتين . وكل من يشاهد مريضا

بالصرع خلال هذه المرحلة بالذات ينتابه الخوف على حياة هذا الاخير بسبب المظهر المقلق الذي تكتسيه سحنته آنئذ .

– مرحلة الاختلاجات : مباشرة بعد المرحلة السابقة يشرع المريض في حركات اختلاجية بالغة الشدة على مستوى الاطراف بالخصوص . والاختلاجات هي

عبار عن حركات لا إرادية متتالية كما هو معروف . وكثيرا ما يعض المريض لسانه اثناء هذه المرحلة الاختلاجية الى ان يدميه . وتتواصل الاختلاجات

بضع دقائق ثم تخف تدريجيا الى ان تزول مؤذنة ببدء المرحلة التالية .

– مرحلة (الشخير ) : ويعود سبب تسميتها هكذا الى كون التنفس يصير صاخبا خلالها . وفي هذه المرحلة تكون الاختلاجات قد توقفت تماما ويكون المريض

في غيبوبة عميقة وقد ارتخت كل عضلات جسمه ارتخاء شديدا . وتختلف مدة المرحلة ( الشخيرية ) باختلاف الحالات . لكنها نادرا ما تتجاوز عشر دقائق.

– مرحلة الاستيقاظ : واثناءها يستعيد المريض وعيه شيئا فشيئا . وقد لا يتطلب ذلك اكثر من دقائق معدودة بالنسبة الى بعض المرضى . في حين يحتاج

اخرون الى ساعة او ازيد قبل ان يستعيدوا وعيهم تماما . ولا يحتفظ المريض باي ذكرى عن النوبة بعد حدوثها . فهو يشعر فقط بعياء شديد وبان الاشياء

غائمة من حوله دون ان يعرف لذلك سببا واضحا .

ويتمكن الطبيب في معظم الاحيان بناء على المعطيات السريرية التي ذكرناها من الاشتباه في مرض الصرع. ونظرا لان المريض لا يستطيع ان يتذكر ما

حدث له فان دور افراد العائلة يعد حاسما في هذا المجال . اذ ان عليهم ان يقدموا للطبيب المعالج وصفا دقيقا للنوبة التي تعتري المريض .

وبشكل عام فان ظاهرة التبول اللاإرادي خلال النوبة وظاهرة عض اللسان اضافة الى عدم تذكر اي شيئ بعد الاستيقاظ كل هذاه الخاصيات تعتبر وقفا على

نوبة الصرع دون غيرها من الاختلاجات .

ثم ان سحنة المريض نفسها قد تكون موحية الى حد بعيد . فهذا المريض الذي يسقط ارضا بكيفية مباغتة وبعنف عند بداية كل نوبة يحمل ندوبا مختلفة على

مستوى الوجه بشكل خاص . وقد يفقد جزءا من اسنانه من جراء السقطات المتكررة . بل ان عددا لا يستهان به من المرضى بالصرع يتعرضون لحروق متفاوتة

الخطورة حين يسقطون فجاة فوق انية ساخنة او ما شابه ذلك . غير ان هناك اشخاصا مصابين بالصرع يشعرون ببعض الاعراض الخاصة التي تنبئبقرب

حدوث النوبة لديهم . فهم يصابون حينئذ بدوار او باضطراب في المزاج او بظما غير مالوف الى غير ذلك من العلامات التي يدركون بحكم العادة انها نذير بنوبة

وشيكة . ولذا فهم قد يتخذون مختلف الاحتياطات وهذه حالات نادرة في حقيقة الامر مادامت نوبة الصرع تحتفظ بطابعها المباغت في اغلب الاحيان .

وهناك حالة خاصة يجدر ذكرها ايضا في هذا السياق ونقصد نوبة الصرع التي تحدث خلال النوم . ذلك ان عددا كبيرا من المرضى لا يصابون بالنوبة الا خلال

النوم . وقد تمر فترة طويلة من غير ان ينتبه المصاب بهذا النوع من الصرع الى حقيقة مرضه على الرغم منوجود بعض العلامات التي تدل على ان شيئا ما

غير طبيعي قد حدث اثناء النوم مثل حالة الفوضى التي يكون عليها السرير عند الاستيقاظ  والجرح الذي قد يصيب اللسان واحيانا التبول اللاإرادي ثم العياء

غير المالوف الى غير ذلك من الاعراض والعلامات .

الصرع الصغير :

خلافا للنوبة الكبرى يتميز الصرع الصغير – Petit Mal – بخلوه من اي اختلاج . اما خاصيته الرئيسية تتمثل في توقف النشاط الواعي توقفا مطلقا خلال

النوبة . وتدوم نوبة الصرع الصغير ما بين عشر ثوان وخمس عشرة ثانية . ويبدا هذا المرض في سن الطفولة حوالي الخامسة او السادسة من العمر .

وانطلاقا من مرحلة البلوغ تصير النوبات نادرة ومتباعدة كي يزول تماما في معظم الاحيان خلال العقد الثالث من العمر . ولا تكوم موبة الصرع الصغير

مسبوقة باي عرض من الاعراض . كما انها لا تنعكس في شيئ على سلوك الطفل ولا على حالته الصحية العامة .

واثناء النوبة يتوقف الطفل بكيفية مفاجئة عما كان منهمكا فيه وتصير نظراته ثابتة . كما انه يشحب قليلا ويبدو جامدا شبه متحجر ثم تطرف عيناه مرتين او

ثلاثا  ويعود ليستانف نشاطه الطبيعي واثناء هذه النوبة التي يسميها الاطباء بالغياب – Absence – والتي لا تدوم سوى وقت قصير جدا كما اسلفنا لا يحدث

اي اضطراب عضلي ولا يحتفظ المريض بعد النوبة باية ذكرى عنها .

ويتضح من الخاصيات التي ذكرناها ان تشخيص هذا الغياب ليس سهلا فكثيرا ما يؤوله الاباء والمدرسون على انه مجرد شرود بل ان بعض الاطفال قد

يتعرضون للتعريف من جراء هذا الشرود ما لم يشخص مرض الصرع الصغير بدقة بناء على المعطيات التي يوفرها التخطيط الكهربائى للدماغ بالاساس.

– الصرع الجزئي :

ان اهم ما يميز الصرع الجزئي هو وجود خاصيات سريرية وكهربائية مرتبطة بالتخطيط الدماغي تمكن من تحديد المنطقة الدماغية التي تشهد النشاط

المرضي المفرط للخلايا العصبية اثناء النوبة . ويطلق الاطباء تسمية بؤرة الصرع  على المنطقة المذكورة . وهي ظاهرة سوف تتضح اهميتها اثناء

الحديث عن اسباب الصرع . وهناك اشكال سريرية متعددة للصرع الجزئي .

– اهمية التخطيط الكهربائي في تشخيص الصرع :

لقد كان لظهور التخطيط الكهربائي للدماغ اهمية كبرى في ميدان تشخيص الصرع . وعلاوة على المعطيات التشخيصية العامة يمكن هذا التخطيط من الحصول

على معلومات بالغة الاهمية . في ما يتعلق بالتشخيص الموضعي اي بالمنطقة المحددة التي ينتابها الاضطراب . غير ان تاويل هذه المعطيات يتطلب الكثير من

التجربة والمراس . ثم ان المخططات الكهربائية التي يتم الحصول عليها تحتلف كثيرا باختلاف الحلات . الا اذا نحن استثنينا الصرع الصغير الذي يؤدي الى ظهور

الاختلالات نفسها لدى غالبية المرضى .

ومن بين المتاعب التشخيصية التي يصادفها الاطباء كذلك في هذا المجال هناك الصعوبة المتمثلة في كون التخطيط الكهربائي قد يبدو عاديا لدى اشخاص مصابين

بصرغ حقيقي . وذلك لانه ينجز في وقت لا يعاني فيه المريض من النوبة . بينما نعرف ان الخلايا الدماغية تعمل بكيفية طبيعية خلال الفترة الفاصلة بين نوبتين.

ومجمل القول ان هذه التقنية التي نتحدث عنها تعتبر ذات اهمية قصوى في تشخيص الصرع . بيد ان هذا لا يعني انها تدلي دائما بمعطيات حاسمة او نهائية .

فالاخصائيون جميعهم متفقون على ضرورة مجابهة المعطيات التخطيطية بالمعطيات السريرية قبل الجزم بالتشخيص .

وبالاضافة الى التخطيط الكهربائي للدماغ يلجا الطبيب المعالج في بعض الحالات الى فحوص اخرى متطورة كالفحص بالسكانير او غيره بحثا عن علة قد تكون

هي المسببة لمرض الصرع .وهو ما يسميه الاطباء بالتشخيص السببي الذي لسنا في حاجة للتاكيد على اهميته الكبرى في هذا النطاق .

   الانعكاسات النفسية للصرع :

لقد عرف موضوع الانعكاسات النفسية للصرع نقاشات وخلافات لم تنته بعد بين الاخصائيين . ولا نقصد هنا تلك الاراض النفسية التي تتزامن مع بعض النوبات

وتزول بزوالها . بل نتحدث عن الاضطرابات النفسية المزمنة التي يعتقد الكثيرون انها ترتبط في العمق بمرض الصرع . ويذهب عدد من الاخصائيين الى حد القول

بان شخصية المريض بالصرع تتميز بخاصيات متعددة يسهل الانتباه اليها . فمنها المزاج المتقلب وسرعة الغضب ولزوجة الفكر والميل الى تكرار الاشياء مع قدرة

غريبة على الالحاح ثم التعالي والانانية . وفي الوقت نفسه يلاحظ لدى هؤلاء المرضى برود متزايد على الصعيد العاطفي والوجداني .

هذه اذن الملامح العامة لشخصية المريض بالصرع حسب اولئك الاخصائيين . غير اننا نجد بالمقابل من يتصدى بشدة لهذا المفهوم – مفهوم الشخصية الصرعية –

مادام مبنيا على  تعميم لا يقبله المنطق السلم . ففي اعتقاد معارضي هذا المفهوم لا تشاهد ملامح الشخصية المشار اليها الا لدى نسبة ضئيلة من المرضى . ويتعلق

الامر تحديدا ياولئك الذين يقضون فترات طويلة بالمستشفيات مظرا لاشتداد وطاة الصرع عليهم . وبطبيعة الحال فان المعطيات الناجمة عن دراسة حالاتهم لا ينبغي

ان تعمم باي حال من الاحوال على مجموع المصابين بهذا المرض . ثم ان دراسة الخاصيات النفسية للمرضى بالصرع تتطلب ان ناخذ بعين الاعتبار عدة عوامل

متداخلة مثل نوعية الاعتلال الدماغي الذي تسبب في الصرع والتاثير المزمن للادوية وردود فعل الوسط العائلي والاجتماعي الى غير ذلك من العوامل المختلفة .

وبالموازاة مع مفهوم الشخصية الصرعية نجد اخصائيين اخرين يثيرون مشكل انحطاط القدرات الذهنية لدى المصابين بهذا المرض اذ يعتقد الكثيرون ان الصرع

يؤدي على نحو تدريجي الى هذا الانحطاط وهنا ايضا يتصدى اكثر من واحد لهذا الاعتقاد . ويكفي ان نشير الى ان لينوكس وهو من كبار الاخصائيين في هذا المجال

يرى ان مسالة انحطاط القدرات الذهنية عند المرضى بالصرع لا تنبني على اي اساس علمي بل انه يؤكد على ان 90 % من هؤلاء المرضى يبقون متمتعين

بقدرات ذهنية طبيعية تماما وذلك طوال حياتهم هذا دون ان ننسى ان عددا لا يستهان به من المشاهير الذين حققوا انجازات باهرة في ميدان العلم والادب والفن

قد كانوا مصابين بهذا المرض . اما بالنسبة الى الحالات الذهلنية التي تشاهد لدى المرضى بالصرع فهي استثنائية حقا فضلا على ان علاقتها بهذا المرض

ليست واضحة كل الوضوح .